لا يوجد رجل معاق متشرد وثري في العالم اكثر إثارة من الفنان الاسباني فرانسيسكو غويا.. عاشق النساء المجنون الذي أصبح إله الريشة الاسباني.. ملهم هذا الرجل في وقفته.. وملهمة هي ريشته.. عندما يقدر لك ان تقف أمام تمثال غويا الذي نصبته مدريد في متحف برادو الشهير سيذهلك وجهه المنحوت بطريقة تقول.. “أنا أصم.. لكنني عاشق وفنان.. أحب الثورة والتشرد وارسم العالم”.. تحت قدمبه تستلقي فاتنة عارية كأنه تدهوه لممارسة الجنس في تلك الساحة العامة التي تجتذب السياح من كل انحاء العالم.. ل يأتي الموريتانيون كثيرا لزيارة تمثال غويا.. انهم لا يحبون الفسوق كثيرا.. وهذا الرجل غارق فيه من رأسه الى أصابع قدميه..

فرانسيسكو غويا المولود سنة 1746 في قرية (فوندتودوس) بإسبانيا لأب فقير يعمل في طلاء المعادن وتذهيبها، ترك خلفه حياة مضطربة، مشتعلة بالحرائق.. فضائحه الأخلاقية المدوية في شبابه المثير للجدل كثيرة جدا.. غير أن تفاصيلها قلما تكون معروفة لأن طالب الفنون الكسول القادم من (سرقسطة) لم يكن مشهوراً يومذاك.. ولم تكن صحافة الفضائح قد تطورت في اروبا كثيرا.. لذلك كان من المعروف ان يدفن المشاهير تاريخهم في القرى البعيدة.. وبعد ذلك قد يتكفل صالون فني أو ثقافي معين بكشف الحقيقة يوما وقد تظل الفضائح سرا الى الأبد.

لكن بعض سقطات غويا سجلت على كل حال، فقد ترك مدريد بعد ان عثر عليه في حي للدعارة مطعوناً بمدية في ظهره، وهي طبعا وضعية تعبر عن حجم تشرده العجيب.. كما اضطر إلى ترك روما بسبب عمل حقير.. فقد أغوى راهبة في طور التجربة في سخرية واضحة من المقدسات الدينية.. ويتساءل عشاق غويا باسبانيا اليوم: “كيف اقنع هذا المجنون راهبة بأن تحيد عن الطريق”.

رجل كهذا سيكون ذات يوما أحد مشاهير اسبانيا المتميزين ويكون عشيقاً لأرق سيدة اسبانية.. ليس مجرد صديق.. بل ملهم لهذه السيدة المشهورة لتي تدعى “ماريا دي بيلار” والتي انهارت بين قدميه في تأدية لطقس عبادة وهي تقول في أول زيارة لمرسمه الكبير: (لا أريدك ان تعاملني معاملة خاصة.. عاملني كما تعامل النساء الأخريات). وكانت هذه فاتحة أروع قصة حب في التاريخ الاسباني.. كانت فاتحة لقصة جنس وشذوذ أيضا.. كان كل شيئ مثيرا ومشتعلا لحد الجنون والفضيحة في قصة غويا.

بدأ غويا في الشهرة في عام 1775 مع أول 60 صورة كرتونية لمصنع الأقمشة الملكي الخاص في سانتا باربرة.. وتعرف خلال اقامته في مدريد بعدد من شخصيات المجتمع الراقي.. ورسم لوحات شخصية لهم مما زادهم تعلقا به..

في عام 1780 أختير للأكاديمية الملكية في مدريد، وفي عام 1786 عين رساماً لتشارلز الثالث مع حلول العام 1799 وتحت رعاية هذا الاخير، أصبح الفنان الأنجح والأكثر عصرية في إسبانيا.. وقد أضاف اللمسات الأخيرة على لوحته المشهورة “عائلة تشارلز الرابع” التي رسمت في هذا الوقت (1800).. وتشكّل بحسب النقاد علامة بارزة على طريق تطوّر فن الرسم, وخصوصاً في إطار كسر صرامة القواعد الكلاسيكية.

بعدها جاءت لوحته المشهورة والمثيرة جنسياً”مايا العارية” و”مايا المكسوة” (حوالي 1800 إلى 1805) جعلته يستدعى للاستجواب والتحقيق في عام 1815.

ابدع غويا اكثر في عمر 47 سنة بعد تعرض لمرض حاد وشديد ثم تحسن خلال عدة شهور، ولكنه فقد السمع كلياً وأصبح مكتئباً.. ولا يوجد تحديد واضح لنوع المرض الذي أصابه.. ويرجح أنه أصيب بمرض عصبي حاد مثل التهاب السحايا أو التهاب الدماغ أو الملاريا الدماغية.. وعلى العكس مما كان متوقعا فقد واجه عمله بواقعية كبيرة تجاور الكاريكاتير.. فأبدع لوحاته كابريتشوس الثمانين أو “النزوات”، وهي هجائية تهاجم الانتهاكات الدينية والاجتماعية والسياسية، مثلت إنجازاً بارزاً في تاريخ الطباعة.

وعندما غزانابليون  إسبانيا (1808 إلى 1815)، أنتج غويا سلسلة النقش الثانية والثمانين “كوارث الحرب” (1810 إلى 1820)..

الغريب في هذا الفنان انه رغم اكتسابه المجد والشهرة فقد بقي مجرد (مايو) Majo.. والمايو لا شبيه له في العالم الا (الهيبي) في القرن العشرين او “جينكات” في العاصمة الموريتانية نواكشوط 2010 .. فالمجتمع الاسباني كان قبل مائة عام من جيل غويا يعترف فقط بـ (الفرسان) و(الأوغاد).. وغويا لم يكن فارسا.. لذلك فضل ان يكون وغدا.. تزامن ذلك مع ظهور (المايوز) Majos و(الماياز) majas في المجتمع الاسباني.

والمايوز لهم دائماً حرفة يعيشون منها غير أنهم يفضلون التجوال أو التهريب أو الخداع، ويتميزون باحتقار المجتمع الذي يحتقرهم.. اما الماياز النساء فيعملن إذا اقتضت الضرورة.. ويرتدين ملابس المومسات وكثيرات منهن يتقاضين أجورا عن ممارسة الحب. وعقيدتهن الوقاحة وعدم الحياء.. يقول دليل المتحف مبتسما وهو يتحدث الى عشرات الاوروبيات الجميلات.

بعد الفضائح التي سببتها عشيقته الارستقراطية العارية “مايا العارية” و”مايا المكسوة” اصبحت غويا على كف عفريت جعلته يستدعى للاستجواب والتحقيق.. وعلى اثر ذلك آثر غويا الهجرة؛ رحل من باريس. وبعد إقامة قصيرة عاد إلى مدريد ثم رحل إلى بروكسل..

أمضى غويا بعض الوقت بعد قدومه إلى فرنسا في باريس حيث رسم لوحات شخصية لأصدقاء له بألوان متعارضة ثم عاد إلى بوردو ليرسم لوحات لمناظر طبيعية أعجب بها رسم خلال اقامته في بوردو نقوشا مصغرة على العاج كان من أجملها نقش “بائعة الحليب” التي اثارت في نفسه الكثير من الحب.. حب البساطة وعشق التحرك.. ان بائعة الحليب مثل بائعة الورد.. تجعلنا نعشق دائما.. هنالك دائما ثورة تطلقها فينا كل امرأة التي تبيع الاشياء.. حتى لو كانت تبيع الجنس..

كانت بائعة الحليب في بساطتها تنافس ذكريات عشيقته دوقة “البا” بكل جنونها وحماقاتها الجميلة.. لذلك كانت لوحتها حاضرة ايضا.. لا تختلف النساء بعد رحيلهن.. تبقى الذكريات وحدها تمارس صراعها في ذهن غويا كما يصارع المتادور ثيران اسبانيا.. وهي مصارعة يعرفها غويا جيدا.. فقد نشر عنها ۳۳ رسما لمجموعة معتمدا على مشاهداته الشخصية لحلبة مصارعة الثيران في لابلازا في مدريد..

إن بائعة الحليب إلهام من ذلك الذي يجيئ غصبا على مخيلة الرسام وقد يتأخر وقد يتقدم.. ربما نلمح ذلك بقوة في أهم لوحة دينية رسمها غويا في حياته حملت إسم المناولة الأخيرة لسان خوزيه دي كالاسانس ووضعت هذه اللوحة على مذبح كنيسة القديس اسكولاب في مدريد.

جاءت “بائعة الحليب” كنهاية لسلسلة طويلة من رسم فتيات الشعب ولذلك مثلت كل ما هو جميل ودقيق في فن فرانسيسكو غويا كما شكلت الانجاز الأقصى لأسلوبه الفني الخاص.

قصة غويا العاطفية المثيرة مع دوقة (ألبا) التي يكبرها بثلاث وثلاثين سنة والتي تحس بان العالم يتجنبها وينبذها.. هي قصة مثيرة للجدل.. فاتنة هذه النبيلة الاسبانية في حضورها وأوجاعها وحديثها.. المرأة الجميلة ذات الشعر الأسود الفاحم والعينين الواسعتين والفم الصغير الباسم والجسد الرشيق الممتلئ المتعطش للحب هي سيدة مدريد الأولى.

انها  المرتبة الثانية بعد الملكة المستهترة (ماريا لويزا تيريزا) في السلم الاجتماعي.. بعد زوجة الملك كارل الرابع..

(أنهم يتحنبونني) هكذا تقول المرأة الارستقراطية التي تهرب الى عالم المتشرد غويا ليمارس معها ما يمارسه (المايو) في السرير، ان مضاجع الرسامين والكتاب.. تكون دوما ملتهبة.. لذلك تهرب نساء القصور اليها.. فليست هنالك انثى تبحث عن سرير بارد.

ان اسمها الحقيقي هو نص متكامل (دونا ماريا دي بيلار تريزا كابيتانا دي سلفا الفاريز دي توليدو) هكذا تكون النبيلات في اوروبا.. لكن النبل لا يمنعهن من ملاحقة أمثال غويا من المتمردين على النظام.. تعذبهن تلك الشهوة المميتة ليلا.. وما ان تطلع الشمس حتى يهرعن الى مرسمه..

الدوقة الثالثة عشرة لـ(ألبا) وهي (ماسوشستية) يدفعها طلب اللذة إلى التذلل والخضوع وربما التعرض إلى الضرب أيضاً.. هكذا يحكي تاريخ هذه الانثى.. ويحتفظ لتاريخ بأنها ضاجعت مصارعي الثيران، وسرت الإشاعات انها لا تتورع عن مضاجعة الصبيان ومهرجي البلاط والأقزام.

كل شيء كان يدل على ان غويا الذي يصغر (المركيز دي ساد) بست سنوات فقط، كان ساديا يتلذذ بتعذيب الآخرين وربما شمل ذلك اللذة الجنسية.. اهلا وسلا.. وافق شن طبقة اذن.. انثى ماسوشستية وفنان سادي.. يا ارض احفظي كل هذا التطرف الجنسي والفني الذي تغذيه الموهبة والمال..

طلبت المليونيرة من غويا ان يرسمها: (لا أريدك ان ترسمني عارية.. فقط بل وبنشوة وافتتان!) فرد عليها قائلاً: (وبوسعي ان أرسمك بعد ذلك من عالم الخيال؟) وقد رسمها فعلا..

فكانت أكثر النساء أناقة في مدريد.. ولكن حسب بعض الباحثين في الفن والنقاد فان هناك القليل من الرسومات والتخطيطات للأميرة، تظهرها في أشد حالات الوصال والعلاقات الحميمية محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس.

لم تكن اللوحة التي رسمت مجرد فضيحة لهذه السيدة.. لكن الأمر اكثر من ذلك.. فكل ديانات العالم تعاقب على التعري وتنسى ان آدم وحواء ولدا عاريين وان ذلك لم يكن مشكلة ابدا.. كان الله يراهما عاريين في الجنة.. وكان يسامحهما على التعري.. ويكفي ان أكل التفاح كان أسوأ من التعري عندما بدء الخلق.

وفوق كل ذلك كان التعري العلني جريمة عقوبتها الإعدام في اسبانيا.. لكن أي امرأة تستحق ان تكون عشيقة غويا، كانت ستفعل أي شيئ اذا كان قلبها ينبض وكانت تعلم ان كل الذي سياتي بعد التعري لا يمكن ان ينسيها شهوة وضع ملابسها جانبا في مرسم غويا..

انها قادرة على تفهم كل ما سيحدث بعد ذلك.. لا شيئ يمكنه ان يوازي لذة التعري امام فنان مجنون قادر على رسم العالم في لوحة واحدة.. لكن كما كان تحريض حواء لآدم باكل تفاحة بداية لعنة على البشرية في ثقافة المسلمين.. كان تحريض هذه الثرية للفنان غويا بأن يرسمها عارية بداية ازمة اخلاقية في اسبانيا القديمة التي يتعرى اهلها اليوم في المظاهرات ويتزوج فيها المثليون علنا ويشاركون في الحياة والتنمية..

لا زال الوجهه المجهد لغويا منتصبا اليوم في متحف برادو وسط مدريد.. يحكي تفاصيل تلك الفضيحة.. وضع الرجل ريشته عندما مات.. بعد ان نزفت الوانا كثيرة على أجساد النساء.. والثورة.. والتاريخ.. بعد ان رسم الجميلات والمجانين وعذب الارستقراطيين برسوماته وعذب لمتشردين بانتمائه إليهم.. “الموت خير صديق”.. قالها غويا وصعدت روحه.