ترجمة: الشيخ نوح

وهكذا، بالكاد ينقضي أسبوع واحد على رحيل عبد الكريم با، وهأنذا أتنبه إلى ما سأخسره، وبشكل غير قابل للاسترجاع (جراء ذلك)، خلال كل ما تبقى في حصالتي من الزمن الذي سأحياه.

قليلون فعلا على غرار عبد الكريم با أولئك الذين يحملون، بكثافة وكذلك بصدق، هذا القدر من الوفاء لجذورهم، لقراهم، ولطفولتهم. وإذا توجب علينا الوقوف عند الشغف (الأكثر سيطرة)، من مجموع الشغف الذي كان يغذي حياته، فإنه سيكون حتما حبه الاستثنائي لبابابي. هذا الرابط الأحشائي الذي يصله بالأرض التي ولد فيها:

“لُوتِي. البِرْكة الكبيرة، ذات المياه العكرة، التي تردها العذراوات الجميلات”*

صحيح أن برْكة لُوتِي قد خنقتها الرمال منذ زمن قصي، وأن العذراوات اللواتي عرفهن في صباه، إذا سلّمنا بأنهن لا يزلن على قيد الحياة، لم يعدن سوى عجائز ذوات ظهور منحنية ووجوه محفورة بالتجاعيد، إلا أن ذاكرته الشخصية ما زالت تكتنز ذكرى رطوبة (تلك البرْكة) وذكرى نعمتهن ونعومهتن، كما لو كانت أرواح الأشياء والناس الذين كانوا يعيشون في المكان، قبل نصف قرن، ما زالت شاخصة في كيانه بكثافة، حتى وإن غدت صور تلك الأشياء والناس نهبا لرياح الجهات الأربع.

لقد بدت تعرجات الأزقة كما لو أنها رجوع لطفولته. إيابٌ لزمن بعيد ومبارك. جوقةٌ نوستالجية وقهقات نساء وهن يهوين في المهاريس بمداقهن. عودةٌ للقطعان، بين غيوم الغبار وجلبة التأوهات، ساعةَ الغسق. رعونةٌ لألعاب الشبّان، ورقصاتٌ رشيقة للنواهد. نيران للمدارس القرآنية وهي تضيء عمى الليالي.

وإذا كانت عودة الكثيرين إلى مناطقهم الأصلية تحتّم عليهم نوعا من الانحناء المهزوم للتقاليد البالغة الثقل غالبا، وترغمهم على السير بانضباط على خطى أسلافهم، دون الانحراف عنها قيد أنملة، فإن عبد الكريم كان يختار، حين يعود إلى أرضه وأهله، أن يعيش متحررا من الإكراهات الاجتماعية ومن الضغوط المرهقة العقيمة وحتى السخيفة. وبشكل أقل، لم يكن يولي أي اهتمام للمظاهر، ولا حتى مسايرا لقواعد النفاق الاجتماعي التي تُستبدل بالكياسة عادة.

لقد كان هذا الكائن الفوتاوي الشجِن، والمحافظ إلى حد ما، أيقونة وثائرا حقيقيا. وليس على المرء إلا أن يخمّن ماذا يلزمه ليعيش سابحا ضد تيار من التواضعات الاجتماعية المتحجرة، التي أكل الدهر عليها وشرب، في مجتمع حيث الحرية والفردانية، كخيار للعيش، يعتبران من الهرطقات اللامتسامح معها، ليدرك أن الأمر لا يتأتى إلا لشخصية غير عادية، تتحلى بأعلى مستويات الشجاعة والحرية.

كان عبد الكريم حين تسود الحماقة المثقلة بذاتها، وتعكّر قراراتُ التافهين والنفوس المرهقة الأفقَ، أو حين بكل بساطة تدعو شفافية للسماء الليلية إلى السفر، يصعد برجه، مدوخا الفضاءات النجمية بنظارته الفلكية، بينما تداعب قمة “تنغادته” النجوم. متمثلا مقولة “إذا جمعتك صداقة ما ببركة في أحد الأيام، فإن أثر خطاك سيبقى على ضفافها حين تنضب”*. لقد عاش عبد الكريم محترما ذاته وغيره، ومات وفيا لنفسه ولخياراته في الحياة ولصداقاته.

لقد كان بالنسبة لي بمثابة الأخ والعم/الخال والصديق، وسوف يظل بالنسبة إلي، ومن بين كل الرجال والنساء الذين ولدوا على ضفة برْكة “لوتي”، الوحيد الذي سيحتفظ صلصال البركة بآثار خطاه إلى الأبد.

أما إذا حدث وأن لمحتْ عيناي المتعبتان، ذات مساء بارد، طيفَ راع فلاني نحيل، يذرع السماء طافيةً خطاه، ثم يختفي خلف القمر، فلن يساورني أي ذعر البتة، لأنه لن يكون حينها، ودون أدنى ذرة شك، سوى عبد الكريم با الذي غادرنا في رحلة بحث عن النجوم الضائعة، ليعيدها سالمة إلى قطيعها السماوي في “جينو”.

.

.

هوامش

1- العنوان يعني “راعي النجوم” باللغة البولارية

2- أبيات أوردها الكاتب باللغة البولارية

3- التنكاده: هي قبعة تستخدم أساسا من أجل الظل، كبيرة الحجم وتشبه في شكلها كوخا صغيرا، يستخدمها كبار السن عادة من الفلان.

4- نشر المقال بعد مرور أسبوع على رحيل كاتبه الصحفي عبد الله سيري با