ضمن اهتماماتنا الثقافية، وسبيلا إلى إلقاء حجر في البركة الراكدة، نواصل سلسلة لقاءاتنا مع المثقفين والكتاب والمبدعين داخل البلد وخارجه.
وفي هذا الإطار التقينا أحد الشعراء الشباب الذين فرضوا أسماءهم كجزء من العطاء الشعري والثقافي للبلد.
لقاؤنا هذه المرة مع الشاعر داوود التيجاني جا، وحوار حول الهم الشعري والثقافي بشكل عام، ورهانات الحداثة في الشعرية الموريتانية، بالإضافة إلى حوار حول تجربته في الكتابة بشكل ورؤيته للمستقبل.
متابعة شيقة.

“عبور إلى الذات” هو باكورة أعمالك الشعرية، هل ما زال في جعبتك المزيد، وما هو كتابك القادم؟

  • في البداية أهيبُ بأسئلة إعلام التردي والساندويشات الجاهزة بالرقيّ قدر المستطاع إلى سقفِ هذه الأسئلة المتحضرة التي تشرع كل النوافذ المعرفية أمام الشاعر، بوصفه كائنا مسكونا بالقراءات المتعددة وبالرغبة الملحة في أن يُكتشف من الداخل وتسبر أغواره الفلسفية، وهذا ما لا تتيحه أسئلة إعلامنا المحليّ، فجميعها أسئلة متثائبة وباردة وفاقدة للعمق. شكرا لكم على إعادة الاعتبار للإعلام الثقافي في هذا الحيز الموبوء.

وفيما يخص سؤالكم، أعتقد أنّ الشعر الجاد وعدٌ تكمن عظمته في استحالة إنجازه، وهذا ما عبر عنه درويش ضمنيا بقوله :(لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي)، وقد مات درويش دون أن ينهي قصيدته أو أن ينجز وعده الشعري العظيم!

أنا أيضا لدي وعود شعرية وسردية ، أنجزت منها الٱن عملين (عبور إلى الذات، وملتبس بعد التأويل) ومجموعة قصصية قيد التنضيد.

“المشهد الثقافي الموريتاني لم يستطع أن يفرز نساء مبدعات”، هذه خلاصة وصل العديد من المهتمين بالساحة الثقافية في البلد، ما السبب في رأيك؟

  • تاريخ المجتمعات الأبوية كلها أثبت فشلها الذريع في تنشئة عقولٍ حرة، ففي مثل هذه الظروف ليس بمقدور المرأة أن تقدم إبداعا يحتفى به، ومع ذلك فهناك نساء خرقن القاعدة. ويمكنُ تلخيص كوابح إبداعات النساء في التالي:

– السلطة الأبوية المتواطئة مع بعض التفسيرات الدينية ذات النظرة الضيقة تجاه المرأة.

– القيم البدوية التي تختزل فكرة المرأة في كتلة متدلية من اللحم الرخو والعاري!

-الأنظمة السياسية التي تعيد إنتاج كلَ تلك القيم السالفة الذكر، إضافة إلى تعاميها عن أحقية المرأة في التمكين والمساواة والتعلم.

تخيل معي برلمانا يرفض التصويت على قانون يجرم العنف ضد المرأة والفتاة في القرن الواحد والعشرين ، وهذا حصل هنا في موريتانيا للأسف!!

المرأة كانت مبدعة قبل بزوغ المجتمع الأبوي وقبل سجنها في قارورة الشهوات، وتجريدها من تراث تجربتها الإنسانية الممتدة، لتصبح جزء من ديكورات القصور والبيوت. إليكَ زنوبيا ملكة تدمر مثلا، كانت إحدى العقول المتوهجة، والإرادات الحرة. لقد تمكنت من قيادة إمبراطورية عظيمة كادت تفتك بها أيادي الرجال، وكذلك مارية القبطية كانت إحدى المستنيرات في تاريخ القبط العظيم.

كل هذا الاستدعاء التاريخي قد يقرب مدى تحكم القيم الزائفة في عقول النساء وإبداعاتهن. والإبداع حرية وكسر للمتاريس، فحتى الرجال غير المتحررين، ليسوا مبدعين البتة مهما تظاهروا بذلك أو حاولوا تسويقه داخل أطر النموذج!

إذن الخلل يكمن في التنشئة، ثم في عدم الوعيِ بالقيود. الإنسان الواعي بقيوده هو وحده القادر على التحرر منها. وهذا يعيد إلى ذهني سؤالا تم توجيهه للكاتب الليبي إبراهيم الكوني، حين طلب منه أن يذكر أسماء نسوة ليبيات مبدعات، فقال إنه غير قادر على ارتكاب مجازفة بهذا الحجم ورفض ذكر أسماء نسوة، لكنه ذكر أسماء مبدعين رجال.

كتبت نصا بعنوان “سياكا” على ما أذكر، مستلهما اسم طفلة لقيت مصرعها في فيضانات بمدينة بوكي، هل أنت شاعر ملتزم ومثقف عضوي بالمعنى الغرامشوي؟

  • في الحقيقة أنا دائم التحفظ على مفهوم “الالتزام” لأنه قد يحيلُ إلى نوع من التخندق السياسي أو الٱيديولوجي، مع أنني أنحاز للالتزام الذي عرفه ليوبولد سيدار سينغور بقوله: “يكون الأدب ملتزما عندما يضع نفسه في خدمة موقف عقلي ثوري مقابل البنية التقليدية للمجتمع”. والالتزام السياسي والٱيديولوجي لا ينفي صبغة الإبداع عن الملتزمين البتة، وإليك اثنان من أشد المبدعين التزاما وإبداعا وهما ماريو بارغاس يوسا وبابلو نيرودا. لكنني- وهذا موقف شخصي- لا أحب أن أتصف بالالتزام بالمعنى الذي أوضحتُه ٱنفا، أما فيما يخص القصيدة التي ذكرت فهي اصطفافٌ علنيٌ مع القتلى ضدَ الصمت الرسميّ المطبق، وهذه وظيفة أي شاعر جاد، وأعتقد أنها التعويذة السحرية لشاعر مصر الكبير عبد الرحمن الٱبنودي، الذي نجح في الاصطفاف مع عمال السد العالي في الستينات ضد التصريحات الرسمية، لذلك كانت قصيدته (جوابات حراجي لزوجته فاطنة عبد الغفار) فارقة في تاريخ الشعرية الإنسانية. والأمر قد ينطبق على نص (بائعة النعناع) للشاعر الشيخ نوح الذي ظل محفورا في ذاكرة الجماهير الموريتانية لأنه يلخصُ مشاهدَ تراجيدية لامرأة تحمل” طفلين في حضنها والثالث الوجع”، ذلك أن النصوص المنتمية إلى الأصوات المسكَتة هي الرهان الحقيقي وما سواها مجرد أصداءٍ لقراءات قديمة. وهذا تماما ما أراد ٱنطونيو اغرامشي قوله حين نحت مفهوم “المثقف العضوي”.

التلقي الشعري على مستوى الفنيات والجماليات ما زال تقليديا، هكذا يبرر بعض الشعراء عزلتهم الشعرية، ما موقفك؟

-هناك مقولة ماندينغية ساخرة قد تختزل ما أريد قوله عن تقليدية التلقي وهي: “عندما لا تطال يد القرد الفاكهة يقول إنها حامضة”. قد يبدو الأمر مؤلما لكنها الحقيقة.

التلقي في موريتانيا ظل حبيس نصوص تقليدية أشبه بسجع الكهان لفترة طويلة، وعنتريات مضحكة تسعى لتحرير فلسطين والعراق وانتزاع الأندلس من قبضة المسيحيين الإسبان وإعادتها إلى المورسكيين، بينما تتجاهل وجع كواهل عمال ميناء الوَرْفْ، و “بائعات النعناع”. من هنا بدأ المتلقي يحس بالاغتراب، فقرر العودة إلى المتاح من نصوص “الجاهلية”- مع تحفظ شديد على هذه العبارة الخادشة للحياء- وقصائد ازريگة، لكن تجربة نادي دهشة أعادت إلى المتلقي أوراقه الثبوتية، وصالحت بينه وبين الشعر بوصفه صدى مواجعه وتفاصيله البسيطة، حتى أنها صالحت بينه وبين النص الحر الذي لم يستسغه مطلقا قبل نص “نواكشوط شارع جون كندي ليلا”. لقد أحس الجمهور بالانتماء لهذه القصيدة وصاروا يطالبون بها في كل أمسية.

فزت في عدة مسابقات شعرية بنصوص، ربما كتبت خصيصا لهذه المسابقات، هل تعتبر هذه النصوص هي ما يمثل تجربتك في الحقيقية؟

– نصوص المسابقات كشفت أمامي مدى هشاشة الشعر حين  يكتب طبقا لذائقة لجان التحكيم، خاصة حين تكون لجنة التحكيم تقليدية ومتقاعدة معرفيا، لذلك لا أعتبرها جزء من تجربتي، بل وأستبعدها من مخيلتي كي لا تتسرب إلى نصوصي الجادة.

موريتانياً، هل هناك مشروع شعري أو ثقافي تعتقد أنه يقوم على رؤية والتزام محددين؟

– يقينا أن مشروع دهشة المختلف هو الرهان الوحيد الذي تعول عليه القصيدة الموريتانية،

وذلك لأسباب كثيرة من بينها الرؤية الكونية التي تتجاوز حدود المكان والعرق وحتى الدين إلى فضاءات تشمل مسلمي الروهينغا وضحايا الهولوكوست، وكذلك الانحياز للعبيد والمرأة وكل الهوامش ضد التفسيرات الفقهية القاسية والتأويلات البشرية المتسمة بقدر جنوني من الهمجية، إضافة إلى النجاح الذي حققته على مدى السنوات القليلة، والذي دفع البعض إلى استنساخ التجربة. هذا الاستنساخ جاء بعد انتقادات لاذعة حكمت على أعضاء النادي بالخروج على القيم والمسلمات. أجل، نحن خرجنا على قيم النمط والاختزال والتكرار الميت، وأضفنا جديدا وسحبنا المتلقي من العتمة إلى بؤرة الضوء، فماذا أضاف المنخرطون في هذا النسق؟.

وأنتهز هنا الفرصة لأعد جماهير دهشة بمشاريع ضخمة وأقول: إن في جعبتنا الكثير مما يليق بانتظاركم الذي دام سنة كاملة، نتيجة للظروف المرتبطة بالجائحة، التي اجتاحت العالم.

بالإضافة للشعر، فإنك متورط أيضا في كتابة القصة، هل فعلت ذلك شغفا بالسرد أم حبا للتجريب؟

-كتابة القصة تمنحني إعادة علاقتي بالأشياء بشكل أكثر دقة، “فالشاعر يكتب عن الكلمات، أما السارد فيكتب عن الأشياء”، على حد تعبير إيكو، الذي روى كمثال على ذلك قصة لشاعر إيطالي، كان يتمشى مع حبيبته في حديقة جميلة ففوجئ بورد بابونج. سأل حبيبته: “ما اسم هذا الورد؟”، أجابته: “مستحيل أنك لا تعرفه، فأنت كتبت نصا عظيما تصف فيه هذا الورد”. قال لها: “أنا أكتب عن الكلمات لا عن الأشياء!”. أما أنا فأريد أن تتضافر لدي القدرة عليهما معا، ثم إن الشعر في أغلب أحواله أُحادي الصوت، أما السرد فأصوات متعددة وفسحة للتكثيف والثرثرة بمعناها الراقي!

حين يجِن الليل، وتعود روحك إلى صفائها، ما الموسيقى المفضلة لديك في مثل هذه اللحظة؟

– في أغلب  الليالي التي أخلو فيها مع وحشتي أستمع للوكي ديبي. هؤلاء الرستمانات يا صاحبي لديهم حسٌ إنسانيٌ وهذياناتٌ معقولة، هي وحدها القادرة على ترويض الوحوشِ الكامنة في أرواحنا!… لوكي يحملني  إلى أقصى الريغى، إلى غيتوهات الصعاليك في بوغى دوْ؛ حيث كنا نتبادل لفائفَ محروقة، وننغمس في القهقهات اللامحدودة تماما كالحرية والشعر، ونضحك إلى الأبد!

ماذا لو طلبنا منك نصا كإهداء، أي نصوصك ستختار؟

معلقةٌ لأنثى

(1)

لخصركِ أن تشتهيه اليدُ

وتنعسَ فيه ولا ترقدُ

له أن يثرثر ملء السرير

إذا ما تعرى لنا موعدُ

له أن يؤجج نار اندلاعي

بليل البخور… فلا أخمدُ

نديمينْ للريح ننسى المجازْ

ونشرحُ لليلِ ما نقصدُ

هو الصاحبُ المستحثُ جسوما

لنا كيْ بها نحوه يصعدُ

فيا أنتِ إن حشرجَ النهدُ.. غني

وشبّي فناركِ ما أعبدُ !

ويا أنا إن ضيعتكَ القصيدةْ

تعالَ إليها هنا توجدُ!

(2)

**

هيَ منتهى الصمتِ المكثفِ بالأنوثةِ والنعاسْ

مذْ أدمنتْ عَرقي المفصد باللُهاثِ استنطقتهُ أصابعٌ ندتْ عن الحناءِ

وانجذبت إليْ

(3)

أغني لها إنْ ألمتْ بقلبي

وأصرخ يا منتهى النار… شُبي !

تعاليْ

لنَقرأ “فيكتورْ هِغو”

وإن شئتِ نقرأ للمتنبِيْ

وإن شئت نقرأ نصي “كَكْعبِ”

“4”

ندسُ خطانا بهذا الهزيعْ

ونودعُ أجسادنا الأرصفَةْ

لأني تصوفتُ فيك كما

تصوف جسمكِ في الملحفَهْ

وأدمنتُ هذا الصداعَ الكثيفْ

عروجكِ فِيَّ الذي كثفَهْ

مدينٌ للَيلكِ أنى تهادى

تهبُ الشموعُ لكيْ تحذفَهْ

فيرفضُ إلا البقاء كأنتِ

ويعجزُ شعريَ أن يصفه

 

سيرة ذاتية مختصرة

داوود أحمد التجاني جا شاعر وكاتب قصص قصيرة

من  مواليد مدينة بوكى سنة 1992

صدر له عن دائرة الثقافة في الشارقة ديوان “عبور إلى الذات”

وله تحت الطبع ديوان  “ملتبس بعد التأويل” ومجموعة قصصية

شارك في عدة مهرجانات محلية ودولية وفاز بعدة جوائز ٱخرها وصيف شاعر الرسول لعام 2021