هذا الشاب الأسمر ذو العمامة الحلزونية المطوية بعناية على طريقة زهاد السيخ. لطالما مازحه أحد الأصدقاء، عندما كان يطلق عليه “موريتاني من الهند”. صديق الأمكنة المفتوحة، وابن الضواحي المنسية في البرامج الحكومية الجادة. حارب الظروف الصعبة في مراهقته وهو تلميذ في الكتاتيب. على شفتيه دوما تزهر تلك الجملة التي ينطقها، وهو يكثفها بكل ما تعنيه من تراجيديا بشرية ومن انتهاكات متفق عليها لحقوق الطفولة، ينظّر لها شيوخ المدارس الأهلية والتشيرنات المنتفخة بطونهم من عرق وكدح الطفولة المغتصب على أرصفة الشوارع المخمورة بعصارات زيوت السيارات وحوامض بطارياتها وبمياه المجاري. الجملة التي يفحّ (حتى لا يتفوه) بها على الدوام المخرج الفائز مؤخرا بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان أمل للسينما في ستوكهولم هي (كنت “طالبي” Talibè) وهي عبارة ولوفية من أصل عربي وإن “آلمودو” البولارية أشهر منها.
حفظ القرآن الكريم إلا خمسة أحزاب، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، والتي فرضت عليه الانخراط في العمل، غير أن الشاب الطموح لم يستقل من أحلامه، بل كان أكثر تصميما على المضي قدما في دروب التحدي، وهو ما طور خريج مدرسة الحياة، هذا العاشق الكبير للأسبريسو، أساليب ناجعة للوصول إليه، كانت وراء صموده أمام الظروف اللئيمة في بلد بعد أن كان أهله يئدون البنات أصبحوا يئدون الولدان أيضا.
بلد كل أفقه رماد، وفرصه مذرورة على أعتاب الأغنياء وأبناء المركز، وخيراته تستغل لنشر المزيد من التقسيم وتوسيع الشروخ والدفع بالأجيال إلى حافة الانتحار.

بلد كل شيء فيه يبلغ الأقاصي؛ فالغنى لدى حفنة من أبنائه بلغ حده الأقصى، لدرجة الانقطاع من الواقع المزري للأغلبية، والفقر بلغ حده الأقصى لدرجة الانسلاخ من بديهيات الحقائق البشرية والحقوق الأساسية، وبين هذه التطرفات الكبرى والأقاصي المترامية كان خليفه سي يبحث عن مساحة للحلم، متلقيا رصاص السخرية والاستضعاف من المركز، وسكاكين الشيطنة وحتى الاتهام بالانفصال التام عن الواقع من الهامش.

لقد كان يسير في مساحة ملتبسة ودقيقة، ولا يلوح له سوى أفق لا يبشر بأي نور، لولا أن النور الحقيقي هو ذلك الذي ينبعث من دواخلنا، وربما هذا ما جعل الفيلسوف ديوجين يحمل مصباحا في وضح النهار، مبررا ذلك بأنه “يبحث عن رجل رشيد”. ديوجين ذلك البائس المتقشف، لأن ثراءه وكنوزه الحقيقية كانت داخله. ذلك الذي قال عنه إسكندر الكبير (لو لم أكن إسكندر الكبير لكنت ديوجين الكلبي)، ومن منا لا يجوز له أن يقول الآن (لو لم أكن ذاتي لكنت خليفه سي).

عض الشاب على حلمه بالنواجذ، حتى عندما تكالبت المفاجآت الأليمة عليه، واضطر أن يبيع اللحم في مجزرة والده بعد إصابة الوالد بمشاكل صحية أقعدته، فنحّى الكاميرا والمشاريع التصويرية جانبا، وانخرط في عالم البيع والشراء والسكاكين. نعم، لقد فعلها خليفه سي بشغف فني ومسؤولية راقية، متخلصا من كل القشور والعقد والنظرات المستهزئة.
وربما قد يكون هناك تشابه بين الكاميرا والسكين، فالسكين حادة وحدية، والكاميرا حادة البصر وحدية تهتم برصد المخفي والمسكوت عنه. السكين تعبُر بالضحية من ضفة الحياة إلى ضفة الموت، وتهدم الحدود القائمة بينهما. أما الكاميرا فإنها تعبر بالمخفي، وهو في حكم الميت رمزيا، إلى بؤرة الضوء والإبراز. إذن كلاهما تلامس هذه النقطة الفاصلة بين الوجود واللاوجود، وربما هنا تلتقيان!
فوز المخرج القادم من أقاصي الحرمان والنموذج المادي للفشل العام، يعكس في حقيقته النجاح الفردي، والنموذج الشخصي للفعل والإنجاز، ويلقي الضوء على القصور الفظيع للسلطة السياسية وعلى فشل النخب التي حكمت البلد منذ أكثر من ستة عقود، ولم تستطع أن تقدم لموريتانيا مجدا ونماذج على غرار خليفه سي وعبد الرحمن سيساكو، لكنها تقدم لنا آلاف “الزيدانات” الناقصين، والقاصرين عن الفعل والتأثير والإبداع، فإلى أين تسير بنا طاحونة الفشل الذريع هذه؟!

الشيخ نوح