زيارة رئيس الجمهورية لبعض منشآت آفطوط الساحلي التي تزود انواكشوط بالماء، ولو أنها جاءت متأخرة قليلا، أمر إيجابي، مما يعني أنه بدأ يعي حجم المشكلة ويتفاعل معها، مع أنه حتى الآن كان يعطي انطباعا بعدم إدراك تصاعد الغضب الشعبي ونفاد صبر المواطنين بخصوص عدم تجاوب الحكومة مع توقعاتهم. من الجيد بالفعل أن يتفاعل الرئيس بشكل ملموس وأن يمهل الوزير الجديد أسبوعا لتشخيص مشاكل قطاعه وتحديد أسباب الأزمة واقتراح بعض الحلول.

ولكن ردة الفعل هذه تعتبر الحد الأدنى، ولا تعني بالضرورة تغييرا في تعاطي الحكومة مع المشاكل، حيث أن هذا التصرف لا يناسب حجم وعمق التحديات، ومن ضمنها أزمة المياه، حيث إنه يسلط الضوء على الجانب التقني للإخفاقات فقط، دون الجانب البنيوي، وهو الأهم. فزيارة الرئيس للمنشآت ونزوله للميدان لا يكفيان، لأن هناك اختلالات حقيقية على المستوى المركزي، سواء من حيث تحديد السياسات وتنفيذها ومتابعتها وتقييمها، وهي الأسباب الرئيسية لتدني الخدمات العامة والعوائق الحقيقية أمام أداء الحكومة وتفسر ضعفه، ومن المؤكد أن الوزير لن يتطرق إليها في تقريره المنتظر.

الأسباب الحقيقية التي لن يتضمنها تقرير الوزير :

ما لن يقوله الوزير هو أن البلد على مفترق طرق، وأن النهج الذي يُسَيَّرُ به حتى الآن أثبت عدم فعاليته، حيث يستحيل أن يستمر النمط الحالي للتعاطي مع التحديات. فأغلب الوعود لم تر النور ولا ترقى حتى إلى مستوى التطلعات، لأن الشعب يتطلع إلى المزيد.

ما لن يقوله الوزير أن سبب كل المصائب التي تعاني منها بلادنا هو، بلا شك، الفساد الذي استشرى في ظل الأنظمة السابقة، واستمر في عهد الرئيس الحالي. كل المؤشرات تؤكد ذلك : العدد المتزايد لصفقات التراضي، إفلات المفسدين من العقاب وحتى من المساءلة، وضلوع العديد من المسؤولين العموميين، عن طريق مناصبهم وحاشيتهم المباشرة، في القضايا المشبوهة.

ما لن يقوله الوزير أن هذه الأزمة وغيرها نتيجة مباشرة لتمكين النخب الفاسدة وتجديد الثقة فيها، من خلال تكليفها بتسيير مصادر البلد، وزرعها في قلب جهاز الدولة الذي من المفترض أن يلبي تطلعات المواطنين، في وقت كان الشعب يتوقع اجتثاث رموز الفساد الموروثة من الأنظمة السابقة. هذا التفاوت الصارخ هو الذي يغذي تفاقم الإحباط لدى الشعب الذي يدرك أن الإصلاح والنتائج الملموسة لن يتحققا دون استئصال النخب الفاسدة المتغلغلة في جميع مفاصل الدولة، فهي غير قادرة على إحداث التغيير المنشود، لأنها، في الواقع، فشلت طوال العقود الماضية وتتحمل مسؤولية كبرى في ركود البلد وتدهور أوضاعه.

ما لن يقوله الوزير هو أن الدولة مترهلة وأن جميع القطاعات تعاني من الإخفاقات نفسها، نظرا لنفس ظروف الفساد والظلم وعدم مهنية الموظفين ورداءة الخدمات العامة. فالانطباع السائد لدى المواطنين أن قطاع الماء، كجميع القطاعات، يرزح تحت وطأة “مافيا” تضم بعض المسؤولين وبعض الموظفين ومكاتب دراسات وتجار وسماسرة. كما ينظر الرأي العام إلى شركة المياه كأفسد مؤسسة في البلاد، بلا منازع، حيث يعتقد الكثيرون أنه لا يمكن لأي مواطن أن يحصل على أي خدمة أو حتى وثيقة إلا بدفع رشاوي.

ما لن يقوله الوزير أن سبب كل هذه الإخفاقات هو أن هذه الحكومة الشاحبة، والضعيفة، لا تتمتع بالقدرة لا على التعبئة، ولا على الإنجاز، ولا على استباق الأزمات، فهي بلا برنامج وبلا رؤية، مع افتقار صارخ إلى الطموح. كما لا تملك زمام المبادرة، وأداؤها دون الحد الأدنى المطلوب، فلا متابعة ولا تقييم. والدليل على إهمال وضعف أداء الحكومة هو أن رئيس الجمهورية اضطر شخصيا إلى التدخل للوقوف على أسباب أزمة الماء، مما يعني أن الحكومة مقصرة، وغير قادرة على معالجة المشاكل، وعلى ضمان تقديم الخدمات العامة في ظروف أفضل، وبطريقة شاملة وخالية من الفساد والمحسوبية.

ما لن يقوله الوزير أن سياسة التفويض التي ينتهجها الرئيس، بدون رقابة ولا متابعة ولا تقييم، ليست منهجا رشيدا. التفويض يعني متابعة الوزراء الذين تم تكليفهم ومحاسبتهم على ما يفعلونه وما لا يفعلونه. أما الانتظار حتى يخفقوا لاكتشاف فشلهم فهذا أقرب للاستقالة من المسؤولية. فالرئيس هو المسؤول الأول عن اختيارهم وإعطائهم الصلاحيات والموارد الضرورية، ولا يمكن أن يتذرع بكونه أطلق لهم العنان في تنفيذ ما يريدون.

ما لن يقوله الوزير هو أنه ليست لدينا رؤية تنموية وطنية. الدولة تعيش في ظل ديكتاتورية المدى القصير. ليست لدينا حتى رؤية قصيرة المدى. حتى إن بعض الخيارات التي تتخذها الحكومة اليوم، ربما، تكون صالحة على المدى القصير، لكنها قد تثير التساؤل حول أولويات أكثر أهمية على المدى المتوسط ​​والطويل. في ظل هذه الظروف، من المستحيل تطوير دولة دون وجود رؤية وطنية يتم تنفيذها وتقييمها. الحكومات المتتالية كلها تميل إلى إهمال الجانب الاستراتيجي، مع أن مشكلة التنمية في موريتانيا ، ليست بالضرورة مشكلة موارد، فهي في المقام الأول مشكلة تخطيط وتنفيذ ومتابعة. لا توجد لدينا استراتيجية تنموية تمت مناقشتها. كما لا توجد استراتيجيات قطاعية، مجرد وثائق مبتذلة وغير متناسقة، مصممة من جانب واحد، من قبل بعض التكنوقراط. لذلك، نستمر في رصد الأموال ونعهد بها إلى مسؤولين غير مؤهلين. ونستمر في إنفاق المليارات والمليارات، بدون نتائج وبدون تأثير مرئي، وهذا ما يحدث لنا منذ عقود.

الحل بيد رئيس الجمهورية، المسؤول الوحيد :

على رئيس الجمهورية أن يُظهر للموريتانيين أن لديه أفكارا وأنه قد فهم رسالتهم. فَهُمْ يتوقعون منه أن يكون الرئيس المُصلح الذي تحتاجه البلاد، وليس الرئيس الذي يحمي النخب الفاسدة.
فَتَغيُّرُ الوضع وإحياء الأمل يتطلبان التحلي بالصرامة والإرادة، وتبني مقاربة إصلاحية جريئة وطموحة، لإعادة البلاد إلى مسار التقدم والتنمية، ومواجهة الصعاب الهيكلية، ومشاكل التسيير، واختيار المسؤولين المناسبين.

على مستوى أزمة المياه، يتطلع المواطنون إلى إجراءات عاجلة وسريعة لتوفير الماء الشروب، ولكن أيضا إلى محاسبة المقصرين. فلا يمكن تكليف المسؤولين عن الفشل والإخفاقات ، الذين يلهثون وراء الثراء السريع عن طريق الصفقات العمومية، بعملية الإصلاح. كما أن ردة الفعل المناسبة هي تنظيم وتعميم التدابير التي سيتم اتخاذها والتي يجب ألا تقتصر على انواكشوط وحده، لأن نقص الماء الشروب وتدني الخدمات، إن لم يكن انعدامها، يعاني منه الجميع على عموم التراب الوطني.

على المستوى البنيوي، ولكي تستعيد الدولة مصداقيتها، يجب على الرئيس أن يَحُدَّ من إطلاق التعهدات، وينتقل إلى الإجراءات والأفعال والقرارات الملموسة التي لها تأثير واضح وفوري على حياة السكان. فمن الملح الشروعُ في مشاريع هيكلية لتحفيز التنمية وخلق الفرص لصالح الفئات الأشد فقرا. على الحكومة إعداد خطة طوارئ، مع سلسلة من الإجراءات يتم تنفيذها على الفور، والبدء في تفكير مواز، بصفة تشاركية، يشمل جميع جوانب الإصلاح على المدى البعيد، و بموارد كبيرة لإطلاق قاطرة التنمية والقضاء على الغبن وانعدام المساواة.

إن الوضع المضطرب لبلدنا وحالة التشاؤم السائدة يتطلبان أكثر من حكومة تصريف أعمال. لذلك على رئيس الجمهورية أن يعيد التفكير في نظام الحوكمة، من خلال تشكيل حكومة عمل تسهر على تنفيذ استراتيجية تنموية وطنية، تتم مناقشتها وتنسيقها، مع خطط عمل قطاعية، وتوفير الموارد لإعطاء معنى لسياسات الاستثمار العام. هذه الاستراتيجية تكون نتيجة مشاورات واسعة النطاق، تشمل جميع الفاعلين، وتحدد التشخيص الدقيق للتحديات القائمة من خلال وضع أهداف واقعية ووسائل تحقيقها، مع إطار للمتابعة والرقابة، عن طريق مؤشرات قابلة للقياس، لضمان تحقيق النتائج المحددة سلفا ولتقييم الإنجازات، على أساس سنوي. هذه هي الحلقة المفقودة.

هكذا فقط يمكن للرئيس أن يعالج جذور المشكلة، وإذا تعذر ذلك، لا يمكن لأحد أن يتوقع ردود الفعل التي قد يثيرها اليأس الشديد وخيبة الأمل.