في ما يسارع جميع جيراننا الخطى نحو تحقيق سيادتهم الغذائية والانتقال ببلدانهم من مرحلة نزيف الواردات الغذائية إلى مرحلة التصدير، يواصل شلال الواردات الغذائية في بلادنا التدفق بقوة متزايدة لاستنزاف مصادر العملة الصعبة المحدودة التي توفرها المعادن والأسماك.

فما مظاهر هذا الاستنزاف؟ وأين نحن من جيراننا؟ ولماذا فشلنا في ما نجح فيه جميع جيراننا ،ولو بدرجات متفاوتة؟

ظلت الفجوة الغذائية في موريتانيا تتسع رغم جميع المظاهر الكرنفالية، والاستراتجيات والخطط الخمسية والعشرية الحكومية ،حتى وصلت فاتورة وارداتنا من المواد الغذائية إلى نحو 296.000.000.000 أوقية قديمة سنة 2020 حسب أرقام مكتب الإحصاء الحكومي، وهو ما يمثل نحو 46% من الميزانية العامة الأصلية للدولة في تلك السنة..!

هذا برغم أن الدولة وضعت سنة 2012 استراتيجية تحدد الأهداف الزراعية المراد تحقيقها حتى سنة 2020. وتضمنت تلك الأهداف تحقيق الاكتفاء الذاتي في عدد من المحاصيل الزارعية.

كما وضعت سنة 2015 خطة عشرية، أقل طموحا من الاستراتيجية ،لوضع هذه الاستراتيجة موضع التنفيذ، تضمنت تحقيق الاكتفاء الذاتي بالنسب الآتية في المحاصيل التالية:

%115الأرز    

%120التمور   

%84السكر    

القمح والبصل والبطاطس والحبوب التقليدية بنسبة 60%

فهل ترى في أسواقنا اليوم، بعد سبع سنوات من هذه الخطة، وبعد أحد عشر عاما من تلك الاستراتيجية أي سكر أو قمح من انتاج محلي؟ وهل اختفت من أسواقنا التمور وأنواع الأرز المستوردة؟ أم هي الزراعة على أمواج الأثير تطل علينا بوجهها الوقح؟.

مالكم كيف تحكمون..!

وهكذا بعد أحد عشر عاما من إطلاق الاستراتيجية الحكومية للزراعة ما تزال فاتورة وارداتنا من المواد الغذائية ترتفع، أما الإنتاج الزراعي فمازال يراوح مكانه في أحسن الحالات وينخفض في بعض السنوات حتى وصل بؤس موقفنا إلى درجة أن تفتخر وزيرة الزراعة آنذاك بوصول إنتاجنا من جميع أنواع الحبوب خلال موسم 2018-2019 إلى 428888 طن، وهو ما لا يزيد على نحو 4% من إنتاج مالي الذي وصل إلى أكثر من 10300000طن من الحبوب خلا الموسم ذاته..! 

أما السنغال فقد قفز إنتاجها من الحبوب من 1500000 طن سنة 2010 إلى 3500000 طن سنة 2022، وتمثل المنتجات الزراعية ثلثا صادراتها ، وقد تحولت من ثامن أكبر مستورد للأرز في العالم إلى دولة قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المادة الاستراتيجية.

و إذا قدر للتخبط في سياساتنا الزراعية أن يستمر فإن قدر بلادنا أن تتحول إلى سوق للمنتجات الزراعية السنغالية والمالية والمغربية .

ولو نظرنا إلى جارتينا الشماليتين لانكشف لنا أكثر فشل نخبنا.

فالجزائر، العائدة إلى الاحتماء بالزارعة، بعد أن أهملتها خلال العقود الأولى لاستقلالها، وصلت قيمة إنتاجها الزراعي إلى أكثر من 25.000.000.000 دولار، وما تزال مستمرة في ثورتها الزراعية المتسارعة التي تحول رمال صحرائها القاحلة إلى جنات خضراء منتشرة.

أما المغرب فقد انتهى قبل سنوات من تنفيذ خطته العشرية “المغرب الأخضر” التي أطلقها سنة 2008 والتي وفرت نحو 342.000 وظيفة شغل ورفعت صادراته الزراعية إلى أكثر من 33.000.000.000 درهم مغربي (الدولار تسعة دراهم) وهو الآن يتوسط خطته العشرية الثانية لتطوير الزراعة، والتي تهدف إلى إخراج نحو 400.000 أسرة مغربية من تحت خط الفقر (للتوسع في مقارنة زراعتنا مع جيراننا، راجع على جوجل مقالنا ذا الأجزاء الثلاثة: موريتانيا: الزراعة خارج التاريخ) .

فهل نتعظ بجيراننا أم على قلوب أقفالها؟

ويستطيع قائل حكوماتنا المتعاقبة أن يقول إن الجزائر والمغرب دولتان غنيتان، ليس من العدل مقارنتهما بموريتانيا، وهي كلمة حق أريد بها باطل، للتغطية على فشل سياساتنا الزراعية. لكن ماذا سيقول عن مالي التي تعيش حربا أهلية والتي لا يتجاوز مستوى دخل الفرد السنوي فيها نحو نصف مستوى دخل الفرد الموريتاني حسب أرقام البنك الدولي لسنة 2018 ( نحو 1100 دولار للمالي مقابل نحو 2200 للموريتاني) وماذا سيقول عن السنغال المساوية لنا تقريبا في دخل الفرد حسب المصدر ذاته في العام نفسه؟

ويحق للقارئ التساؤل عن أسباب “لعنة الفشل” التي تطارد سياساتنا الزراعية، وهي أسباب نأمل أن نفرد لها مقالا منفصلا لضيق المجال عنها في بقية هذا المقال.

لكننا سنكتفي هنا بذكر أهمها، ألا وهو غياب الإدارة السياسية الجادة في تحقيق السيادة الغذائية للبلاد. فكل ما لدى حكوماتنا المتعاقبة هو أماني سياسية لا إرادة سياسية.

ولا تحدثني عن البيانات الرسمية والخطب الرنانة في التلفزيون الحكومي، بل حدثني عن أرقام الميزانيات العامة للدولة، فقد “شهد شاهد من أهلها” على أن الزراعة ظلت في ذيل الاهتمامات الحكومية، وأن حكوماتنا ظلت سخية في دعم مزارعي الدول الأجنبية التي نستورد منها غذاءنا، بخيلة على الزراعة المحلية.

ففي سنة 2020 لم تتجاوز ميزانية قطاع الزارعة والتنمية الحيوانية نحو 15500.000.000 أوقية قديمة، وهو ما لا يتجاوز نحو2.57% من الميزانية العامة الأصلية للدولة مقابل نحو 13% للجيش، بينما بلغ نصيب الزراعة في مالي خلال السنة ذاتها 15% من الميزانية العامة الأصلية للدولة البالغة أكثر من 2600.000.000.000 افرنك غرب افريقي وهو ما يمثل نحو 390.000.000.000 افرنك غرب افريقي أي حوالي 264.000.000.000 أوقية قديمة.

أما السنغال فكان نصيب قطاعها الزراعي من ميزانيتها العامة الأصلية لسنة 2020 نحو 152.000.000.000 افرنك غرب إفريقي وهو ما يعادل 103.000.000.000 أوقية قديمة.

فهل عرفت الآن: لماذا لا يتجاوز إنتاج موريتانيا من الحبوب نحو 4% من إنتاج مالي ونحو 12% من إنتاج السنغال؟

لأن ميزانية موريتانيا للزراعة لا تتجاوز نحو 5.8% من ميزانية مالي لها و15% من ميزانية السنغال. وهكذا فإن الموريتانيين الذين لم يقدموا لزراعتهم إلا “زكاة الميزانية” (2.5%) اضطروا أن ينفقوا ما يقابل نحو نصف الميزانية العامة للدولة على دعم مزارعي أوكرانيا وتاينلدا والبرازيل وغيرها من الدول الأجنبية التي يستوردون منها غذاءهم..!

أما جيراننا الأكثر حكمة فقد فضلوا الانفاق على الإنتاج المحلي بدل الانفاق على الاستيراد، ولكل قبلة هو موليها..!

فهل هذه ،يا رجال نخبنا ،طريق التنمية السليمة، أم طريق الانتحار الاقتصادي؟ ألم تتعظوا بأزمات 2008 وكرونا والكركرات وحرب أوكرانيا؟

أليس منكم رجل رشيد؟

 


*رئيس رابطة التطوير والتنويع الزراعي 

ومدير مركز الإحسان للتهجين الحيواني 

البريد الالكتروني

 beibeyahya@gmail.com