تناقلت وسائل إعلام محلية أخبارا متناقضة بشأن ما حدث في مدينة كيهيدي. إلا أن القاسم المشترك بين كل تلك الأخبار والتحليلات هو افتقارها إلى المعلومات اللازمة وفقرها المعرفي بالمدينة وبطبيعة حقائقها الثقافية والإثنية، وهو ما يكشف من جديد تجذر ثقافة الاختزال والأحكام السريعة لدى صحفاتنا الوطنية، كما يكشف عن مدى الجهل لجهات ومناطق معينة من الوطن.
إن مدينة كيهيدي مدينة مختلطة ومتنوعة ثقافيا وإثنيا، لدرجة أنه من المتعذر أن يحدد المرء بشكل قاطع لمن الأغلبية، عكس ما هو شائع في السرديات الصحفية والتغطيات الإعلامية لهذه المدينة التي لا يصلنا من أخبارها إلا ما هو اختزالي وانطباعي وسطحي.
يعرف كل من يعرفون المدينة أن غالبية سكانها متصوفون وأتباع لطرق صوفية محددة (تيجانيون وحمويون.. إلخ)، وفي الزاوية الحموية بمنزل “مبالي كابا” السوننكية، ينتظم أفراد هذه المكونة الاجتماعية، والتي جعلتها قلتها العددية تنطوي على نفسها وتدير شؤونها الخاصة ذاتيا، في محاولة لعزل أفرادها عن بقية مكونات المجتمع الكيهيدي، لدرجة أن مكونة السوننكي لم تختلط أو تنشر لغتها في صفوف المكونات الأخرى بسبب هاجس “الخوف من الذوبان” في بقية المكونات الأكبر منها. بل إن هذه المكونة اعتمدت سياسة جماعية في الزواج؛ حيث لا تقبل تزويج بناتها، إلا في حالات نادرة، من القوميات الأخرى، وإن كان رجالها يتزوجون من نساء الآخرين؛ على اعتبار أن أبناء وبنات الرجال السوننكي سيظلون سوننكي، بينما بنات النساء وأبناؤهن سيكونون من قومية الأب. بحساب بسيط أدركوا أن الخيار الأخير قد يجعلهم يخسرون عدديا، لا سيما في ظل النزيف في صفوف شبابهم بسبب الهجرة، وكذلك لكون اللغة السوننكية مهددة بالانقراض خلال العقود القليلة القادمة بحسب أكثر الدراسات تفاؤلا.
في مثل هذا الفضاء ظلت قومية السوننكي من أكثر القوميات انغلاقا أمام تغلغل من لا ينتمون إليها في تفاصيلها، وبالتالي ظلت التراتبية حتى لا نقول العبودية (إذ العبودية هي العمل دون مقابل في أبسط تعاريفها) على حالها باسم الخوف من الذوبان، وباسم المحافظة على التقاليد، غير أن اختفاء العديد من الشخصيات المرجعية بالنسبة للشرائح الدنيا (حتى لا نقول الطبقات لأنها مفهوم اقتصادي أساسا) من هذا المجتمع أدى إلى ظهور تذمر ظلت تلك الشخصيات تديره وتسيره داخليا، ومن هنا جاء صدام الأجيال الجديدة من المستعبدين السابقين من المريدين على مشايخهم الأروستقراطيين، لا سيما بعد أن تعلمت الأجيال الجديدة من المستعبدين السابقين، وأصبحت تطمح للمشاركة في قيادة المجتمع دينيا بعد أن تحررت اقتصاديا.
إن الصراع ليس على الحرية التي تعني ضد العبودية أو من أجل الانفصال، كما يروج كثيرون لا يفهمون حقائق ما يجري، وإنما هو صراع على القيادة الدينية للمجتمع التي ظل المستعبدون السابقون محرومون، منها بسبب تأويلات فقهية مسلطة على رقابهم منذ عقود.
إن المجتمع السوننكي مجتمع تحكمه تراتبية اجتماعية صارمة يمتزج فيها الديني والثقافي، وما حدث في كيهيدي قد يؤسس للاستقلال الديني للطبقات الدنيا (الحدادون والإسكافيون المستعبدون السابقون)، وهو ما سيشكل الحلقة الأخيرة من الانشطار العمودي للمجتمع السوننكي، فهل سينجح ما تبقى من الشخصيات المرجعية في إعادة الشباب إلى حظيرة الطاعة، بعد أن سالت الدماء، أم أن الشرخ قد اتسع على الراتق؟.
إن ما حدث ليس مجرد غياب إمام أورستقراطي، ومحاولة من إمام شاب منحدر من ميراث الاستعباد أن يخلفه، لكنه مؤشر اجتماعي على تغيرات جذرية تحدث في واحد من أكثر المكونات الاجتماعية الموريتانية تحجر وصمودا في وجه التغيير.