هذه المرة أكتب شيئا مفيدا! تلخيص لكتاب، أو عمل صالح في هذه الموقع غير الصالح، وربّما من أهمّ جوانب “صلاح” الأمر، أن الكتاب المعني لم يحظ باهتمام كبير في محيطنا، نظرا لظلمات ثلاث أحاطت به، فهو حديث الولادة، وممنوع من الصرف، ومن أم وأب أنثيين.

لكننا هنا بعون الله نقوم بإلقاء شهاب صغير على هذا الكتاب، عسى أن يضيء أو يحترق، فلا فرق؛ مادام القربان صالحا في النهاية أن يضيئه ملاك أو تلتهمه نار القبول.

الكتاب صدر أواخر سبتمبر الماضي، عن دار “بلومزبيري”، تحت عنوان: “القبلية والسلطة السياسية في الخليج” وهي الترجمة المطابقة للعنوان الأصلي:”Tribalism and Political Power in the Gulf”

وهو مؤلّف بالتعاون بين الأكاديمية الكويتية العنود الشارخ والباحثة في جامعة أكسفور كورتني فرير.

يضيف الكتاب تفصيلا خلف عنوانه: “بناء الدولة والهوية الوطنية في الكويت وقطر والإمارات”

وهذا مهمّ لإخوتنا هناك، ومهم لنا أيضا، على الأقل من جهة التماثل والتجانس وما يتيح من إمكانية “استعارة التشخيص” إذا صحت هذه العبارة.

فخلف قشرة الرفاه، ووراء الإمكانات الكبيرة لدول الخليج، يبقى التماثل قائما بين مجتمعنا البدوي الصحراوي في موريتانيا وهذه المجتمعات في الخليج.

حالات كثيرة تمت دراستها في هذا الكتاب ترمي بظلال على حالات قائمة لدينا في موريتانيا، منها مصطلح: “بدوي لايت” أو ما يمكن ترجمته بشكل أدق وأقل بريقا إلى: “البدوية الانتقائية” أي اختيار مظاهر معينة من البداوة وتمثلها في الحاضرة، كإحياء المناسبات القبلية في المدن وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وهي شكل من أشكال إعادة إنتاج الثقافة القبلية للتدليل على الانتماء إلى مجموعة معينة.

لكن المظهر الأكثر خطورة الذي تمت دراسته هو إمكانية قيام الولاء السياسي الأعمى على أساس قبلي، ولا شك أن القبيلة بيئة مناسبة لهذه اللوثة، بل في الحقيقة، لا تغفل الكاتبتان توسيع حلبة النقاش الساخن، إلى تطبيع الأمر؛ فالعالم في كثير من سياساته ماهو إلا تمثّل واستجابة لشكل من أشكال القبلية السياسية على أساس أعمى.

هنا يقفز ترمب على المشهد في سقوط حر!

والمؤلفتان توردان مقولة السيناتور الأمريكي جيف فليك من ولاية أيرزونا، وهو من منتقدي الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، وذلك سنة 2018 عندما دعا إلى رفض ما أسماه القبلية الحزبية المدمّرة”!

في واقع الأمر، هذا يفتح الجرح الصغير على مساحة العالم الأكبر، وقد يكون نوعا من تطبيع الأمر لا غير، لإظهار القبلية السياسية نوعا من التشيّؤ السياسي والتكتّل الذي تقف الأخلاق في حيرة من تصنيفه، بينما تدعمه الفكرة المؤطرة لحرية التعبير.

بالعودة إلى الموضوع الأكثر التصاقا بنا، لا نعدم نماذج كثيرة توحي إلى أن المؤلفتين قد لا تكونان في الحقيقة تتحدثان عن بلد غير بلدنا البعيد المسكين!

لنرى مثلا نقطة مهمة رصدتها السيدتان، وهي رعاية الدولة لما يسمى بالرياضات التراثية مثل سباق الهجن و”المقناص” وغيرها، وهو ما يدعم الروابط القبلية، لأن هذه الرياضات في واقع الأمر تقوم على أساس تنافسي قبلي، يتغذّى على الأمجاد و”العزوة” و”المواريث”.

في مظهر شبه مكرور، نرى ما يحصل في موريتانيا من دعم رسمي لمواسم “شارة” وسباقات الإبل والخيول الضامرة الهزيلة، ولا عزاء هنا حين الخلوص إلى استنتاج المؤلفتين، بأن هذه الظواهر توحي إلى حقيقة البنية القبلية للدولة أساسا، وطابع الشراكة المستدام بين الدولة والقبيلة في إقامة المجتمع وحفظ سلامه.

الخلاصة الأخطر في الكتاب، تأتي على صيغة استشراف، حين ترى أن هذه البنى القبلية في هذه المنطقة قد تغدو في وقت من الأوقات مفاوضا مباشرا للولايات المتحدة؛ ولا يعدو هذا أن يكون استِئخارا أكثر من كونه استشرافا!

فمنذ مئة سنة حصل هذا بعد الثورة العربية في الحجاز على يد الشيخ لورنس العرب وفيصل ابن الحسين.

أما في واقع مجتمعنا الموريتاني، فالأمر قديم وهو أيضا واقع لا يشي المستقبل بزواله؛ وإذا كان لي من استنتاج فيمَ يخص حالتنا المحلية، فهو أن القبيلة ستغدو مع الوقت قالبا يمكن تطويعه لصب مزيد من حلوى اللعبة الديمقراطية، أما القبلية فستبقى الثقب الأسود الذي يبتلع كل أشكال الحلوى و “الحِلوين”