يفيض التاريخ بنماذج كثيرة من التسليم بالسائد أثَرَةً للسلامة، رغم أن التاريخ لم يشهد نصرا كاملا في يومٍ من الأيام، فطالما كان هناك من يكتم إيمانه أو كفره أمام كل فكرة غالبة، ومن يدنّس في الخفاء عَلَم المتغلّب، ويخبت بالتمرد والعصيان.

تَنضحُ كتب التصوف بوصف مُموّهٍ لطائفة من الناس تسمى “الخاصة”، وهم أولئك الذين ترفع في نجواهم الأستار، وتفتح كوى العرفان أمام ألفاظهم العميقة، والحقيقة؛ ما كان أولئك “الخاصة” إلا حفنة من المنهزمين أمام القراءة الرسمية للنص الجامع.

يُلقّب الفقهاء وكل رجال الدين الشعب بـ”العامة” وهم سواد الناس الذين أَلّف لهم الأزهري مختصرا لطيفا أسماه “كفاية العوام بما يجب عليهم من علم الكلام” وبأبوية عارمة ألْجمهم الغزّالي عن بقية هذا العلم في كتاب آخر.

لم يكن تاريخنا استثناء؛ ففي كل الأزمنة الإنسانية مورس جَبْر وحَجْر على أي نسق مخالف، وانتشار الجبْرية في التاريخ شَكّل على نحوٍ مفارق قوّة دافعة للتقدم.

كانت كلّ الأديان في مرحلةٍ ما ترزح تحت حالة من القمع بفعل سيطرة جبْرية سابقة، بدءا بالديسبورا اليهودية التي اضطهدت لاحقا نَشْأَ المسيحية، مرورا بالإسلام الذي لجأ طلْعُه إلى إفريقيا بحثا عن الحرية، ومرورا أيضا بالقرون الوسطى وما مورس بحق العلماء من استبداد باسم الكنيسة، وانتهاءً بسيطرة الحداثة والديمقراطية الغوغائية والمبادئ الخرافية مثل حقوق الإنسان والنظام العالمي، التي أصبحت مع الوقت آلهة أزمنة السيليكون التي تترصّد بكل رأي مخالف.

طوّر الناس خلال آلاف السنين حواس مضادة لآثار حالة الجزم تلك؛ كان أبرزها “الصمت”!.. الصمتُ نفسه الذي وصفه كونفشيوس قديما بالصديق الذي لا يخون.

وحين أصبح الصمت غير كافٍ لإثبات الطُّهر، صار من النباهة التظاهر بالغباء!

الكاتب الألماني الذي نشأ في عصر الإحباط كورت توشولسكي عبّر عن ذلك بوضوح حين قال إن ميزة الذكي أنه يستطيع التظاهر بالغباء.

لم يسعفه التظاهر كثيرا، فقد استسلم لذكائه بعد نجاح النازية وإسقاط الجنسية عنه، فانتحر سنة 1935؛ أو لِنَقُلْ؛ الْتزمَ الصمتَ الأبدي.

قبل ذلك بقرون نجا كوبرنيكوس بفعل حاسّة أقدم، هي حاسة الصمت التاريخية إياها، لكنه ترك خلفه هدية صغيرة للكنيسة مفصّلة في كتابه “حركه الأجرام السماوية” الذي صدر بعد موته.

كل أفكار كوبرنيكوس التي تضرب صميم مُسلَّمة بطليموس كان قد سطرها ابن الشاطر في كتابه “نهاية السؤال في تصحيح الأصول” الذي بدوره نقل عن البتّاني، لكن ضِعَة المكانة وفوضى العصور لفّا المؤذن الدمشقي ابن الشاطر فنجا بفعلته!

هنالك دائمًا عاثرُ حظ في كل قصة، وهو في هذه غاليليو غاليلي الذي باح بأفكار كوبرنيكوس بعد عقود من موته، فانعقدت له محكمة تفتيش أذلّته واضطر لتقبيل أردان البابا وطلب العفو.

يقال إن الكنيسة لم تكن تحترم نظرية بطليموس بالكامل، لكن إذاعة الخبر كان مستفزا، هل يعقل أن الأرض تتحرك والكنيسة آخر من يعلم!

في روسيا زمن الرعب و”أرخبيل الغولاغ” كما في رواية سولجنيتين، أثناء حكم ستالين، طور السوفييت حاسة أكثر دهاء، إنها الـ(Yurodivy) أو ما تتم ترجمته إلينا بالعتاهة!

يرى سولومون فولوكوف في كتابه عن معلّمه نابغة الموسيقى ديمتري شوستاكوفيتش أن المعلم الكبير أمام مخاوفه تحوّل إلى معتوه.

لم يعد آمنا في ظل ستالين أن تتظاهر بالغباء، بل عليك أن تتحوّل إلى معتوه حقيقي يهيم في الطرقات، لكن أشكال تعبير سوقية أخرى انفتحت أمام شوستاكوفيتش فتخلّصت نوتاته من صفير المصانع وتطايرت في الهواء.. بأبهة وحرية.

في عصرنا، نعاني جميعا شكلا من أشكال السلطة المجتمعية التي تورث فينا الخنوع لا يخلّصنا منها إلا العَتَه.

علم النفس الحديث يشرح تفاصيل الجريمة التي تمارس علينا من خلال سيطرة فكرة “الخضوع الاجتماعي” بتطبيقاتها المرعبة، فبمجرد انتشار صرعة ما يصبح من غير المقبول ألا تتعاطى معها.

الأمر لا يتعلّق ب”غانغ نم ستايل”، بل بمواضيع أخرى تفرض عليك: لماذا تقول هذا وهو غير مقبول، ولماذا لا تشارك في هذا وهو مفروض!

آخر الدواهي الكُبر، الديمقراطية!، فتحت سطوة رأي الأغلبية عليك أن تحترم كيانًا ما، وترفع علمًا ما، وتنشد نشيدًا ما، حتى ولو كنت لست مهتمّا!