هناك دوما في فترة زمنية ما يبزغ أحدهم من الواقع المتناقض والجدية الجرّاحة للحياة، ويبتسم منذ ميلاده، محافظا على بسمة عريضة باتساع عمر كامل. 

هناك أشخاص نادرون دمهم معبأ بمادة لزجة بلون البنفسج الكابي تسمى الضحك. يسميها الحدّيون “نكاية بالحياة”، ويسميها المتشائمون رفاق سيوران “كيمياء الحظ”. ويسميها المتصوفة على سبيل الشعررة السماوية “الخمرة الإلهية”. كيف لا يضحك وينتشي من سكر بالخمرة الإلهية منذ البدء؟!

رحيل إمبراطور الظرافة ورمز الإنسان الموريتاني الأول، قبل اشتباكه الحزين والناقص بتعقيدات الحداثة. هذا الرجل الذي يمزج بين لون الأتاي وبحة “اطبل لكبير” في صوته وبين الاوتار المرتخية لتدينيت خارجة على السلم الموسيقي والمقامات دون أن تقع في النشاز.

باب أو ابيبه ولد النانه، هذا الاسم المرتبط في الحس الفكاهي لدى الموريتانيين بشخص يتمنى الجميع أن يملك روحه اللذيذة والمتشبعة بالعسل، وقدرته الفائقة وغير المتكلفة على رشرشة الأرواح بالفكاهة والجذل. هذا العدو الطبيعي للملل والكآبة، الذي اختار المغادرة بعد أن تحولت حياتنا إلى نكتة موجعة لو تجسدت لكانت “الجوكر”.

لا يخطط باب لنص فكاهي محكم، ولا لموقف اصطناعي يجعلنا نضحك عبر الجزء السطحي من وعينا، وإنما يمسك إبريقه ويصب من روحه الفكاهية مباشرة بلا تكلف ولا اشتراطات، وهو بذلك يؤسس لعلاقة الفن بالضحك (هذه الخاصية التي يمتاز بها الهومو سبيانس إذ من أسمائه الحيوان الضاحك)، وهي علاقة سُرية قل من يجيدها. إن السخرية التي نتحدث عنها هنا لا تعني التهكم أبدا. فالتهكم يُمتاح من بئر الليل ذات الماء العكر، أما السخرية فإنها عصارة شاي الحياة المترقرق من إبريقها. التهكم تفجير للآخرين والسخرية انفجار في أعماق الذات؛ بما هي نموذج قد يكون أكبر من الأصل، وهامش أثرى من المتن، وعالم صغير كلما اشتبك بالعالم الأكبر اختلف معه، وكلما اختلف معه اشتبك به.

هل احتج نبي الابتسامة العفوية في الصحراء على عالمنا الذي غدا يتضايق؟ 

أم احتج على الإهمال الذي كان موضوعه، وهو يسعى بيننا ذاتا من لحم وروح، واختار أن يبقى ذكرى تتقد قناديلها في ليلنا الطويل المخدد بالظمأ؟

بشكل أو بآخر، هل نحن من قتلنا هذا الرجل الفاهم للحياة، والساخر من هبائية أوهامنا، نحن السادرين في مسرحية نحسبها تراجيديا، بينما هي في حقيقتها مجرد غفلة ما نلبث أن نفيق منها على تخوم العالم الآخر؟

إن هذا المنسوب العالي من الألم الذي احتدم بداخلي، هذا الألم الوجودي الذي يتخثر كلما رحل أحد الذين نحبهم ونسقط عليهم أحاسيسنا واحلامنا، لم أشعر به منذ مدة.

ثم يظل السؤال الذي خرّب علي هذا العالم، وأرق سكينته المصطنعة، حادا وحديا ووامضا في اعماقي، وبلا إجابة: “لماذا لا بد للحياة أن تنتهي دوما بشكل تراجيدي؟”