لقد باض ما يسمى بالمسار الديموقراطي نظاما هجينا وخديجا، ذلك أن الديموقراطية لا تكون قرارا مفاجئا أو استجابة أوتوماتيكية لإملاءات خارجية أو انحناء لطيفا للعاصفة، بقدرما هي صيرورة اجتماعية وتحولات اقتصادية ومجموعة من التغيرات التي تترسخ عبر الزمن والممارسة والذاكرة.
هذا الأمر لم يحدث بالنسبة لموريتانيا، حيث جاءت هذه الديموقراطية على يد نظام ونخبة غير دموقراطييْن، ولم يسجل التاريخ أي مستوى من النضالية أو الميول السياسية لعرابيها إلى نزعة ديموقراطية أو قناعة بالحرية، بل كانت هذه الحركة عبارة عن طوق نجاة لنظام سياسي استنفد تقريبا كل الخيارات الديكتاتورية منذ عهد الحزب الواحد حتى لحظة إمساك العسكريين بمقاليد السلطة بشكل مباشر، وهو تظام يتوسل بالقوة الخام، فأي نظام ديموقراطي أو إصلاح سياسي سينبثق من هذه العجينة العجيبة من القبائلي والجهوي والفوضوي؟.
إن سياسة السلطة غير المدروسة بشكل جيد، أو على الأصح التي لا تأخذ البعد الاستراتيجي لبناء الدولة الوطنية على المدى البعيد، ولا تهتم ببناء دولة مؤسسات، قد أخفقت في إحداث تغيير جذري في المجتمع سياسيا واقتصاديا، وأدت إلى إعادة إنتاج التركيبة المبنية على الحصول على الامتيازات بالتوارث، وتحديد الوضعية الطبقية بالأصول والانتماءات الضيقة، وهو ما حرم موريتانيا من التحديث أولا ومنع الصعود الاجتماعي للغالبية المسحوقة ثانيا.
لقد استخدم “عقل النظام السياسي” الموريتاني الديموقراطية على المستوى المفاهيمي والإجرائي، ملبسا بها الممارسات الاستبدادية ذاتها، ومعيدا إنتاج النسق الاجتماعي عينه، وذلك عبر استثمار التنوع العرقي والثقافي والجهوي لأهداف تفريقية تخدم المصلحة السياسية الآنية للممسكين بالسلطة، فكانت كل قشور الحداثة السياسية تمويها للّب الاستبدادي والطبيعة التقليدية والرجعية للنظام القائم، الذي يتغذى على إرث استعماري ينظر إلى المحكومين كقاصرين فكريا، وكمجموعة من الهمج الذين يجب ترويضهم بالقوة تارة وبالامتيازات تارة أخرى.
ما زال قادة تلك الحقبة، والمبثوثون في مفاصل السلطة حتى اليوم، يدافعون عنها بإشهار الإنجاز الذي يرونه مركزيا بالنسبة لنظامهم وتفكيرهم السياسي، وهو “المحافظة على كيان البلد”، غير أن هذه المغالطة لا تحتاج كبير عناء لدحضها، إذا ما طرحنا أسئلة من قبيل: حماية كيان البلد ممن؟ ما هي تلك القوى الخارجية التي كانت تهدد وجود البلد؟ أم أن الأمر يتعلق بغالبية المواطنين المقهورين والذين فشل النظام في تحسين أوضاعهم المعيشية؟
إن الأسئلة المرتبطة بمن يملك القوة والتخطيط للتلاعب بالمشتركات الوطنية، وهز نمط من العيش المشترك الذي ظل سائدا لقرون على علاته، سيجعل أصابع الاتهام بكل بساطة تشير إلى السلطة نفسها، لا سيما إذا ما تساءلنا عن المستفيد من تلغيم هذه العلاقات بين مكونات المجتمع الموريتاني، فلا شك أن المستفيد الأول ليس الطرف الأضعف ولا المواطن العادي، بل هي السلطة التي تشغل المواطنين بالاتهامات المتبادلة، وبتخويف بعضهم من بعضهم، وبتأجيج الخلافات؛ ليس فقط عبر اللعب البروباغاندية والمدروسة، وإنما أيضا عبر ترسيخ التفاوت الطبقي الرهيب، وتكريس الجور الصارخ في توزيع الثروة على مستوى القمة والنخب بشكل أساسي، أما العامة فإن الحرمان والفقر واضحان في صفوفهم، إضافة إلى تاريخ من الفشل الذريع في توفير الخدمات الأساسية.
إن السلطة لم تكتف فقط بالاستثمار السيئ والقذر للتنوع العرقي والثقافي، بل تعدته إلى جعل الانتماءات القبلية والجهوية أيضا وقودا للصراعات ومبررا لها في آن، فقد راج تقديم نظام ولد الطايع (أطول نظام عمرا حكم البلد) نفسه بوصفه حاميا للمناطق الشرقية في وجه اكتساح “أهل الكبلة” لمفاصل البلد واختطافه، ولا شك أن نظرة بسيطة على المناطق الشرقية تكشف بوضوح غياب السلطة فيما يتعلق بتوفير أبسط متطلبات الحياة والقيام بمسؤولياتها في الحد الأدنى، كما هو حالها في الغرب أيضا. وليس هذا الأمر غريبا، فحين يكون الفشل بنيويا، فإنه يصبح من العبث البحث عن نجاح هنا أو هناك في ظل منظومة خربة مؤسسة على “تسيير الوضعيات” وليس على “تثوريها” أو تطويرها أو النهوض بها.
إن قدوم الديمقراطية مستجلبة من نظام قتل جزء كبيرا من شعبه، وقام بممارسات تعد الأسوأ في سجل الدولة الوطنية منذ نشأتها في مجال انتهاكات حقوق الإنسان، يجعل الحلم بنشأة ديموقراطية حقيقية وأصيلة مجرد نكتة سمجة، لا سيما إذا أخذنا بالحسبان إن هذه الديموقراطية لم تكن نابعة من تطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية أنتجتها التغيرات التي يحدثها التاريخ والتراكم، ولم تكن مطلبا شعبيا ولا جماهيريا، وإن كانت النخب السياسية رحبت بها بطريقتها، أو سبق لبعضها أن طالب بها لماما.
إن مأساة الديموقراطية في البلد تتلخص في أن من بشروا بها غير ديموقراطيين البتة، وأن الأرضية الاقتصادية الضحلة ساهمت في إفساد الحياة السياسية بالبلد، فولدت ديموقراطية مشوهة، انحصرت أساسا في “الانتخابات وصناديق الاقتراع” وشراء الذمم، فترافق كلمة الانتخابات والديموقراطية في الوعي السياسي الموريتاني المعاصر بحملات البذخ وبذل المال وشراء الأصوات، ولا شك أن السلطة هي من سوف تستولي على المشهد، إذا كانت هذه هي ضمانات الفوز، لامتلاكها الجزرة والعصا معا.
بل إن الديموقراطية كُرست للمزيد من الاستبداد، وغمط الحق، وترسيخ اللاعدالة الاجتماعية، حيث أصبحت هذه الطبقات المفقرة والمهمشة تصوت ضد مصالحها الاستراتيجية على المدى الطويل والمتوسط، بسبب انتشار الجهل واستغلال الانتماءات القبلية الضيقة والوعود الكاذبة بصعود اجتماعي لن يحدث أبدا.
إن الديموقراطية الموريتانية إذا كانت قد أنتجت نظاما ما فهو تكريس وضعية مناقضة لأهدافها الأصلية، ذلك أن الضمانات التي تؤمن حياة ديموقراطية سليمة، ومبنية بشكل تراكمي حذر ومؤسس، لم تتوفر في النموذج الموريتاني، ولهذا ظل العسكريون من يتحكمون في خيوطها… فما الحل؟ وما هي الآفاق، وهل بالإمكان الخروج من عنق الزجاجة، وهل يمكننا الحديث عن “آثار جانبية” إيجابية للديموقراطية الموريتانية؟
يتبع…