ينسب إلى ثعلب الديبلوماسية الأمريكي، وداهية السياسة في كل العصور، هنري كيسنجر، أنه قال ذات مرة، من تلك المرات التي تجري فيها حكمة ما على لسان بشر، “إن السياسي الحقيقي هو الذي يعِد الناس بإقامة جسور حيث لا توجد أنهار”. ورغم ما يمكن قراءته في هذه المقولة من طبيعة التزييف التي يتمتع بها السياسيون وهم يرسمون أقدار الأمم، إلا أن هذه الطبيعة قد يشلها وجود رأي عام ناضج وواع بمسؤوليته، وقد يخفف منها وجود طبقة مثقفة، غير مسيسة بالمعنى المهني، تستطيع أن تفقأ عين السياسي، وتعريه أمام الجميع، وتشكل له كابوسا مستمرا، حتى لا يلحق ببلده وبشعبه إلا أخف الخسائر.

أما في بلد بلا نخبة أساسا غير نخبة سياسية، أو في بلد تحلم كل نخبه بأن تتحول إلى معسكر من “الواعدين الناس ببناء جسور في صحراء قاحلة”، فإن الضريبة هنا تصبح مضاعفة بفداحة، ويصبح الفشل بنيويا وذريعا، إلى حد لا يمكن معه إلا أن نصفق لمجرد البقاء على قيد الحياة، وليس الحلم بحياة أفضل.

لقد استنتسخ سياسيونا أسوأ ما في السياسية في العالم، وتركوا أحسن ما في النخب السياسية من وطنية ومن غيرة على بلدانها، ومن وفاء كلبي لمبادئها وقناعاتها. فعلى مدى العقود الأربعة الماضية تحكم العسكر أكثر في مفاصيل البلد، ونشأت طبقة طفيلية من السياسيين المدنيين، الذين يقتاتون على ما تساقط من فتات السلطة، وعلى ما تسمح به من هامش للحرية وللتعبير عن الخيارات السياسية، وهو ما أفرز الأحزاب المشخصنة، ولم يورثنا مؤسسات سياسية رصينة، تملك رؤية ومسارا وتاريخيا نضاليا محدد الأهداف والمشاريع، بقدرما أسلمنا هذا الأمر إلى شخصيات متألهة، معظمها ولد قبل الوطن، تختزل العمل السياسي في ذاتها، وتنظر إلى البلد برمته نظرة “الأخ الأكبر” في رائعة جورج أورويل “1984”. هذه الشخصيات التي لم تعد السلطة قادرة على التعامل مع سواها، لما تشكله من رمزية تاريخية تربت عليها الأجيال، وما تتمتع به من أهمية في إطار النسيج السياسي الخديج في هذا “السيستم” المشوه، المقدر عليه أن يظل متماسكا نظاما ومعارضة، لأن أي تغيير فيه سيؤدي إلى انفراط عقد المسبحة.

لقد وصلت هذه الخلطة العجيبة التي طُبخت باسم الديمقراطية، من القبائلي والعشائري والجهوي والعرقي وحتى الأسري، إلى نهاية عمرها الافتراضي، وبالتالي فإن أية محاولة لتجديدها من الداخل أو لتلميعها ستؤدي إلى ردة فعل عسكية، بعد الانهيارات الكبرى (انهيار التعليم، تخلخل البناء المجتمعي التقليدي، انهيار الثقة بين السلطة والشعب، انهيار الوعود التي أطلقت قبل أربعة عقود بالرفاه والتنمية، انهيار الحدود في عصر السماوات المفتوحة)، وهذا ما نلمسه اليوم إزاء كل ما تقوم به الحكومة حتى ولو كان توزيعا لمبالغ من السيولة المالية، لدرجة أن مسؤولين كبارا في النظام وموالين له، حين تلتقيهم على الخاص يؤكدون لك أنهم محبطون إلى النهاية، كما هو الأمر بالنسبة للبقية القليلة من الأصوات المعارضة، في الداخل والخارج.

فهل هو الفشل السياسي وحده من أوصل البلاد إلى هذه الحفرة؟

وما هي آفاق التغيير، وما هي المآلات الحتمية إذا كان هناك من “حتمية تاريخية”؟

ثم ما مستقبل هذه الخلطة العجيبة للسلطة في موريتانيا؟

وما هي الرهانات الحقيقية التي يمكن التعويل عليها بشأن اكتشاف ثروات طبيعية جديدة مثل الغاز أو النفط؟

والسؤال المركزي: هل موريتانيا في منأى عن الانفجار؟

هذا ما سنشاكسه في الإطلالة القادمة.

تتبع…