هناك أسماء حفرت لنفسها مكانة هامة على خارطة الكتابة، وقدمت أعمالا ومنجزات تجاوزت سمعتها وصيتها المجال الجغرافي اللصيق بنا، إلا أنها ما زالت مجهولة تماما في بلدها. ليس بسبب عدم علو كعب أصواتها الأدبية وجهوريتها، وإنما لعلو المتاريس والجدران اللغوية التي تفصلها عن معظم أفراد مجتمعها من القراء.

ونحن هنا لا نحمّل أصحاب هذه الأقلام أي مسؤولية فيما يتعلق بخياراتها اللغوية؛ خصوصا بشأن ما انجر عنها من قطيعة لغوية وتواصلية، لأنها تكونت باللغة الفرنسية وتلقت معارفها بها وقرأت وطالعت بها، وبالتالي فمن الطبيعي أن تكتب أن تكتب بهذه اللغة.

عموما لا نرى أن معضلة اللغة مصيرية إلى هذا الحد، فلم يمنع حاجز اللغة من أن نقرأ غنتر غراس ونيتشه وماركس، وهم يكتبون باللغة الألمانية، وما أدراك ما اللغة الألمانية!

ولم تمنعنا حواجز اللغة من قراءة ديكارت وفوكو ودريدا ألفريد دي موسه، وهم بكل تأكيد لم يكتبوا يوما باللغة العربية، بل بفرنسية وفرنسية عالمة.

وما كانت حواجز اللغة سدا في وجه أن نقرأ لبرتراند رسل وجورج أورويل وجيمس جويس وغيرهم من أقلام الأدب و الفكر والعلم المكتوب بالإنجليزية.

ولكن السؤال المطروح كيف قرأنا هذه الأعمال؟.. الجواب البدهي هو أن القراءة تمت عبر جسر الترجمة.

في موريتانيا، حيث شهد التعليم عدة انقلابات سلبية كل حفنة سنوات فيما يتعلق باللغة، انحفرت هوة سحيقة بين مختلف الأجيال بسبب هذا النظام التربوي المضطرب، وتحولت قضية اللغة إلى موضوع للمساومات والمزايدات في دهاليز اللعبة السياسية، بل تحولت إلى عنصر تفريق وشرخ اجتماعي ما فتئ يتفاقم.

هذا المعطى الأساسي والرهيب، نجم عنه ميلاد أدب موريتاني مكتوب باللغة الفرنسية ومتغرب عن بلده، وذلك بسبب القطيعة التي فيما يبدو متعمدة في أغلبها من قبل من يمسكون بالقرار، وهم مهرة في جعل الحبة قبة، وإلهاء البلد في صراعات دونكيشوتية تمثل ماكينة أسطورية لاستهلاك الوقت، وطحن الناس، وإنتاج التقهقر بعيون تراه تحركا صوب المستقبل.

لا شك أن مشروع ترجمة لكتابات العالم اللساني والشاعر عثمان موسى جاغانا كان يمكن لوحده أن يمثل إضافة نوعية للمكتبة الموريتانية الفقيرة ذات المحتوى العربي، كما أنه سيمثل مدا لجسور إلى جزء مهم من الهوية الموريتانية، وإلى السياق الثقافي المحلي الذي ينتمي إليه جاغانا، وإن كان في أعماله يصدر عن رؤية ثقافية أشمل وأوسع أبعادا.

امبارك ولد بيروك اسم آخر منذور للنسيان والإهمال، رغم أن شهرته دوخت الآفاق، ونال جوائز دولية وعالمية عن أعماله الروائية، التي جاءت ناضجة وموسومة بتجربة حياتية ومعرفية، ومرفودة بعمق ثقافي متجذر في الزمان والمكان.

ويظل المرء حائرا أمام هذه النموذجين وغيرهما، ممن يكتبون بالفرنسية في بلادنا، ولم يتم الالتفات إلى أعمالهم ولا ترجمتها، بينما تمت ترجمتها إلى لغات أخرى، وتم الاحتفاء بأصحابها في بيئات أبعد، ولعل ترجمة رواية بيروك “Je suis seul” إلى الإسبانية منذ بضعة أشهر آخر حدث في هذ المجال.

لعب الإيطاليون على التناغم والتصادي الموسيقي، فيما يشبه الجناس الناقص، بين الترجمة والخيانة (traduttore, traditore)، ليقرروا أن الترجمة خيانة، إشباعا لرغبة آنية في اللعب بالكلمات، إلا أن البعض أخذ هذه المقولة على محمل الجد، إلا أننا ومع التركيز على عدم جدية العبارة أصلا من المصدر، نقول إن الترجمة إذا كانت خيانة فهي خيانة جميلة وخلاقة ولا بد منها. فمن سيخون الأدب الموريتاني المكتوب باللغة الفرنسية والمنغرس في بيئته الثقافية والأنتروبولوجية والتاريخية؟.

هذا المشروع يجب أن تأخذه على عاتقها وزارة الثقافة أو اتحاد الأدباء، ولكن هل هناك حقا اتحاد للأدباء؟. أولئك الذين يتناهشون على 200 ألف قديمة. أولئك المبرأون من الخلق والكتابة والخيانة الجميلة أيضا!