سابقة تاريخية

يستعد الإعلام الإسرائيلي الليلة لما يعد سابقة في تاريخ الفلسطينيين الحاملين للجنسية الإسرائيلية أو عرب ال ٤٨ كما يسميهم البعض. عضو الكنيست منصور عباس سيلقي خطابًا الليلة الساعة الثامنة في تزامن مقصود مع موعد النشرات الإخبارية للقنوات الرئيسية. السبب هو أن منصور عباس وهو زعيم اللائحة العربية الموحدة التي هي في الحقيقة لائحة الفرع الجنوبي للحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين) في البلد. منصور عباس قرر منذ فترة الانفصال عن القائمة العربية المشتركة وهي تكتل الأحزاب العربية التقليدية وهي: الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة (حداش)، التجمع الوطني الديموقراطي (بلد)، الحركة العربية للتغيير. وكل هذه الأحزاب هي ذات توجهات تذهب من اليسار الشيوعي إلى وسط قومي.

الأحزاب العربية: بين الوحدة والمصالح الفئوية

قرار تشكيل القائمة العربية الموحدة كان رداً من عرب الداخل على محاولة أحزاب يمين صهيونية (يسرائيل بيتينو- أفيغدور ليبرمان) تقزيم الصوت العربي وذلك برفع الحاجز الانتخابي لدخول الكنيست بهدف إسقاط الأحزاب العربية في الانتخابات فكان رد العرب تشكيل القائمة المشتركة بقيادة أيمن عودة وضمت دروزاً ويهوداً ومسيحيين ونجحت في الحصول على ١٥ مقعدًا في تلك الانتخابات سنة ٢٠١٥. لكن مع الوقت دبت الخلافات بين أعضائها بسبب اختلاف الرؤية والمرجعيات الايديولوجية. الخلاف الأساسي كان عن مشاركة اللائحة في الحكومة الإسرائيلية في حال توفر الفرصة إذ مثلت سلسلة الانتخابات التي تسبب فيها بنيامين نتنياهو في السنتين الأخيرتين فرصة حسب وجهة نظر البعض لمقايضة نتنياهو والأحزاب الصهيونية الدعم العربي لتشكيل الحكومة مقابل الحصول على امتيازات كتمويل البلديات، حل مشاكل البناء وتراخيص البناء، تشغيل العرب ورفع التمييز عنهم في الحصول على الخدمات الأساسية. الطرف الثاني من المعادلة والذي تمثله الأحزاب العربية القومية العلمانية هو الرفض المبدئي للمشاركة في الحكومة الإسرائيلية أو دعم نتنياهو بسبب الموقف الثابت من القضية الفلسطينية والاحتلال.

حسابات جديدة لواقع جديد

عند اقتراب الانتخابات الرابعة في شهر مارس ٢٠٢١ قرر منصور عباس الانفصال عن القائمة العربية المشتركة لخوض الانتخابات على رأس قائمته مراهناً على قدرة قواعده الانتخابية على تجييش مصوتيه وهم في غالبيتهم من البدو في منطقة النقب. في نهاية المطاف، نجح منصور عباس في رهانه رغم الغضب الشديد الذي سببه ما وصفه البعض بالخروج عن الاجماع الوطني الفلسطيني بالداخل واضعاف صوت العرب في الكنيست.
لكن تلك النتيجة لم تكن متوقعة، فعند ظهور النتائج الأولية للانتخابات ليلة الانتخابات بدى أن عباس وقائمته فشلا في تجاوز الحاجز الانتخابي وكانت استطلاعات الرأي وضعف المشاركة العربية في التصويت قد رجحت فشله. لكن مع نهاية الليلة وقع الخبر كالصاعقة على الجميع، فقد نجحت قائمة منصور عباس في الحصول على أربع مقاعد مما خلط الحسابات السياسية لكل الأحزاب وعلى رأسها الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو الذي وجد نفسه، رغم حصوله على أكبر عدد للمقاعد وهو ٣١ من كل الأحزاب، عاجزاً عن تشكيل حكومة لقصوره عن الوصول لنصاب ٦١ مقعداً اللازمة هو وكتلة أحزاب اليمين.

خطة “أبو يائير” وتبييض السياسيين العرب

نتنياهو من جانبه، وهو المهدد قضائياً بسبب عدة قضايا فساد قد تؤدي به للسجن، بدأ بمغازلة الناخب العربي رغم تاريخ حزبه الحافل في شيطنة العرب في إسرائيل. الخطوة الأولى اتت قبل سنتين كتب أحد مقربيه مقالات في صحيفة هآرتس اليسارية مقالًا أثار أيامها غضب اليمين الإسرائيلي لاعتبارهم له تخلياً عن ثوابت قومية، إذ دعى لعقد شراكة جديد مع العرب في إسرائيل ومحاولة التعاون معهم على الرغم من الخلافات الجوهرية التقليدية حول هوية الدولة، والقضية الفلسطينية والتمييز مضيفاً بأن الليكود سيكون شريكا أكثر جدية من أحزاب اليسار التي صوت لها العرب في الماضي دون أن مقابل ودون مكافئة على ذلك الدعم. مع بدأ الحملة للانتخابات خرج نتنياهو من خلال آلته الدعائية التي أصبحت تكنيه “أبى يائير” في زيارة لمدن وبلدات عربية وعد خلالها بتسهيل الحج للناخبين المسلمين عن طريق توفير رحلات مباشرة لمكة. وكثف الحديث عن الناخبين العرب والتمييز الذي لحق بهم في السنوات الماضية على أيدي أحزاب اليسار التي لم تحقق لهم شيئًا.
تبين لاحقًا أن المقال الذي كتبه ناتان إيشيل أحد مقربي نتنياهو كان تقريباً مسودة اتفاق يبحث فيه الرجل عن تشكيل خزان انتخابي له بين العرب لادراكه بان فرصه مع الناخبين اليهود لن تتحسن مع مرور الوقت لتصاعد المعارضة له ليس فقط بين أحزاب اليسار والوسط بل أيضاً داخل كتلة اليمين التي برزت بها أسماء تحاول الوصول لسدة الحكم عن طريق تزعم كتلة اليمين مثل نفتالي بينت رئيس حزب يميناه ووزير الدفاع والتعليم السابق ابن الحركة القومية الدينية الذي أفسد نجاح منصور عباس محاولته لاحتلال موقع صانع الملوك ليلة الانتخابات حيث كان يطمح بأن يكون المفاوض الرئيسي والضامن للاغلبية لكتلة اليمين، أو جدعون ساعر الوزير السابق ونائب رئيس الوزراء السابق المنشق عن حزب الليكود الذي سقط في رهانه الانتخابي على شفط أصوات الليكود وللتحول للحزب الثاني حجماً في كتلة اليمين.

هل ينقلب السحر على الساحر؟

المعضلة الآن بالنسبة لنتنياهو الذي حصلت كتلته على ٥٢ هي أن خطته تكاد تكون قد نجحت في تبييض منصور عباس وقائمته الإسلامية، وكذلك أحزاب القائمة العربية المشتركة وكسر التابو الذي كان يحيط باشراك أو الارتكاز على أي أحزاب غير صهيونية لا تعترف بيهودية الدولة لتشكيل الحكومة في اسرائيل أو حتى التعامل معها بمنطق الندية. هنا، يمكن أن يقع نتنياهو في فخ فبعد كسر الحاجز النفسي فقد فتح أيضاً نتنياهو الباب على مصراعيه لمنافسيه فيما بات يعرف بكتلة التغيير وهي أحزاب الوسط واليسار الصهيونية (يش عتيد، كحول لفان، العمل، ميرتس) التي حصلت على ٥٩ صوتاً ويمكنها نظريًا تشكيل الحكومة إن دعمها منصور عباس وباقي الأحزاب العربية. ما زاد الطين بلة هو تلميح أفيغدور ليبرمان رئيس حزب يسرائيل بيتينو القومي العلماني المتطرف (يصوت له الروس) على عدم اعتراضه على دعم منصور عباس لتشكيل الحكومة طالما تم اسقاط نتنياهو،
هذا الوضع أضعف حظوظ نتنياهو وكتلة اليمين وجعلها تحت رحمة منصور عباس والحركة الإسلامية رغم عدم اعتراف الليكود بذلك بل زعمه لأنصاره بأنه يوجد احتمال في أن ينجح نتنياهو في حض بعض أعضاء كتلة التغيير على الانشقاق والانضمام إليه مقابل حقائب وزارية كما حصل قبيل الانتخابات الثالثة في ٢٠٢٠. المشهد يزداد ضبابية بسبب إعلان عتاة اليمين الإسرائيلي رفضهم التام للتعاون مع أي من الأحزاب العربية. وهؤلاء يدينون بمقاعدهم لنتنياهو الذي استثمر فيهم جزءاً من رصيده السياسي لكي يمتصوا أي أصوات يمكن لبينت وساعر في الحصول عليها. إيتامار بن غفير المحامي وأحد عتاة المستوطنين من التيار الكاهاني، والوزير السابق بيتسليل سموتريتش زعيم حزب البيت اليهودي قد يقصما ظهر بعير نتنياهو سياسياً باعتراضهم على الخيار الواقعي الوحيد الذي سيمكنه من البقاء في الحكم.

منصور عباس: موديل إسرائيلي للحركات الإسلامية؟

من جهته يظهر طبيب الأسنان الدكتور منصور عباس، ٤٧ عاماً، في وسائل الإعلام العبرية بمظهر الرقم الصعب الجديد في السياسة الإسرائيلية. فصعوده الآن غير جذريًا النظرة الجامدة والايديولوجية للأحزاب الصهيونية للأحزاب العربية. كونه ابناً للحركة الإسلامية، وأيضاً لكونه نتيجة أو بالأحرى وليد الخلاف التاريخي بين فرعي الحركة الإسلامية في إسرائيل التي شقتها مسألة التعامل مع المؤسسة الصهيونية. فقد كان طرح الفرع الجنوبي لها الناشط في النقب يقول بأن سياسة المصادمة المباشرة مع مؤسسات الدولة الصهيونية هي عملية غير مجدية على المدى الطويل في تحسين ظروف حياة المواطن العربي. عملياً، اليوم، بينما يقبع قائد الفرع الشمالي للحر كة الإسلامية الشيخ رائد صلاح في السجن بسبب مواقفه السياسية المبدئية تجاه الدولة والمؤسسات الصهيونية، يقف تلميذ رفيق دربه وغريمه السياسي الشيخ حمود أبو دعابس على مفترق طرق يمكن أن يحدد المسار السياسي في إسرائيل بل ويحقق مكاسب تاريخية للفلسطينيين الحاملين للجنسية الإسرائيلية. هذا التباين في الطرح والتوجه يمكن أن يشكل علامة جديدة للحركات الإسلامية حول العالم إذ أنه يعتبر نصراً وتأكيداً للخيار الذي أخذته أجنحة الحركات الإسلامية في ماليزيا، مصر، تركيا والمغرب التي رأت بأنه لا مناص من التعامل مع مؤسسات الحكم القائمة والتعاطي معها بما يضمن تحقيق مكاسب سياسية، والأهم يعطيها المجال في كسب المجتمع وإعادة تربيته وفقاً لايديولوجيتها هي ومبادئها الدعوية على المدى الطويل. هنا يمكن طرح سؤالين متناقضين نظرياً لكنهما مرتبطان عضوياً: هل سينجح منصور عباس والحركة الإسلامية في كسب الشارع العربي إن قدر له أن يحقق مكاسباً حقيقية خصوصاً إن تمكن من استغلال موقعه القوي بشكل ينجح فيه في فرض نفسه على اليمين واليسار الصهيوني كضامن لقيام حكومة مستقرة؟ هل ستنجح الحركة الإسلامية في إسرائيل في إزاحة الأحزاب اليسارية والقومية العربية من موقع الصدارة ليس فقط بتحقيق مكاسب سياسية آنية بل أيضاً بسيطرتها على المشهد العربي من خلال مؤسساتها التعليمية والدينية بتربيتها لجيل جديد من فلسطينيي الداخل على فكرها هي؟ على كل حال، في المدى المنظور، وفي ظل التغييرات الجذرية التي تشهدها الساحة العربية والإسلامية، فإن ظهور تلميذ نجيب في التيارات الإسلامية يطبق دروس تجاربها في إسرائيل هو حدث له الكثير من التبعات الإيديولوجية والسياسية كفيلة بخلط كثير من الأوراق والحسابات فارضاً لمراجعة العديد من المسلمات عن الحركات الإسلامية اليوم.

هذه الأسئلة ستظل مطروحة حتى وان نجحت الاحزاب الصهيونية في الالتفاف والخروج من مأزقها الانتخابي الحالي، ستظل الحركة الاسلامية بقيادة منصور عباس هي الشريك المفضل لديها لتغلب البراغماتية لديها على الثوابت القومية التي تتمسك بها الأحزاب العربية الأخرى.