ظروف كثيرة لم تسعفني الشهر الماضي بتلبية دعوة مهرجان مدائن التراث بمدينة تيشيت الموريتانية. فشكرت واعتذرت ووعدت بزيارة موريتانيا في أقرب فرصة. والحق أن هذا البلد الواقع في الطرف القصي من المغرب العربي قد ترك بصمة في نفسي منذ زيارتي الأولى عقب انقلاب الجنرال “إعلي ولد محمد فال” على سلفه معاوية ولد الطايع عام 2005. ومنذ ذلك الوقت لم أنقطع عن زيارة موريتانيا كلما أتيحت الفرصة وذلك لاعتبارات كثيرة أهمها أن أبناء شنقيط في بلد المليون شاعر هم حراس لغة القرآن العربية وحملة ترسها ورمحها، فضلاً عن الأبعاد التاريخية المرتبطة بفتح الأندلس وسقوطها.

والمتتبع لتطورات المشهد الموريتاني يكتشف أن إعادة تكوين السلطة ومؤسّساتها بعد انقلاب ولد فال لم تستقر تماماً، وأن ثقافة الانقلابات العسكرية كادت تتجذر في هذه البلاد حيث تشكل المؤسّسة العسكرية مع الأجهزة الأمنية الأخرى المعجن الذي يرفد الدولة بالقيادات السياسية البارزة، حتى انتخاب وزير الدفاع السابق وقائد الجيش محمد ولد الشيخ الغزواني رئيسا للبلاد عام 2019 والذي اتسم عهده بمحاولات جادّة لبناء الدولة على أسس جديدة قائمة على المحاسبة ومكافحة الفساد والعبث بالمال العام والتي كان من ثمارها إيداع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز السجن منذ والإفراج المشروط عنه، وضبطه متلبساً بمحاولة الفرار، حتى أعادته المحكمة منذ أسابيع إلى السجن للمحاكمة على جرائم الفساد وتبييض الأموال وسرقة المال العام واستثمار النفوذ خلال ما يصطلح على تسميته بملف العشرية.

والحقيقة أن محاكمة رئيس سابق للجمهورية بتهم الفساد وصرف النفوذ، سابقة مضيئة في الوطن العربي، فهي تسقط الحصانة والهالة والقداسة عن المتنفذين والرموز، فتثبت أن لا أحداً فوق القانون وبمنأى عن المساءلة والمحاسبة. وقد شكّل الشروع بمحاكمة ولد عبد العزيز فسحة ضوء وأمل كبيرة لدى الموريتانيين الذين بدأوا يتلمّسون بوادر إيجابية وحاسمة لبناء دولة القانون. وبهذا المعنى فقد عادت موريتانيا بالنظر إلى التحولات العميقة التي تشهدها، لأن تكون محل متابعة دقيقة داخلياً وخارجياً.

“شطف الدرج من أعلى إلى أسفل” كما يحصل في موريتانيا، هو بخلاف ما يحصل في كثير من بلادنا العربية وبينها بلدي لبنان، حيث إن الشطف غالباً ما يصيب صغار القوم. دون شك ثمة تحديات تفترض على الدولة الموريتانية تعديل قواعد شطف الدرج لتكون من أعلى وأسفل وفي الوسط في ذات الوقت. ففساد ولد عبد العزيز وعشرات من رموز عهده القابعين معه في السجن، لم يكن ليتمّ لولا أن هذا الفساد يرجح أن يكون متغلغلا في الكثير من دواليب الدولة ودهاليزها.

ما يقودنا لذلك هو الجريمة الكبيرة التي حصلت في إحدى مقرات شرطة نواكشوط الخميس الماضي، عندما اقتادت فرقة من الأمن الموريتاني، الناشط الحقوقي “الصوفي ولد الشين” إلى مفوضية الشرطة في دار النعيم، قبل العثور عليه “متوفياً” في مستشفى الشيخ زايد. ورغم عدم اتضاح السبب الحقيقي لاستدعاء الناشط الحقوقي من طرف الشرطة، فقد عزا بيان الإدارة العامة للأمن الوطني وفاته لـ”وعكة صحية مفاجئة”.

وقد أثار البيان الأمني موجة من الجدل والاستهجان فضلاً عن الاحتجاجات الغاضبة التي توّجت برفض أسرة الضحية استلام جثته قبل تشريحها من قبل الطب الشرعي، ما جعل وفاة ولد الشين قضية رأي عام في موريتانيا. الأمر الذي دفع الرئيس الموريتاني لإصدار توجيهات صارمة بتشكيل فريق طبي محايد يتولى تشريح الجثة وإعداد تقرير مفصل يحدّد سبب الوفاة. وهذا ما حصل إذ بيّنت نتيجة تشريح الجثة، كما أعلنها وكيل الجمهورية في ولاية نواكشوط الشمالية “محمد لمين باري المختار فال” عن “وجود كسر في فقرات الرقبة، وتعرضه للخنق”، مؤكداً أن “كلا السببين يمكنُ أن يؤدي إلى الوفاة دون الآخر”.

تصريحات وكيل الجمهورية المطابقة لقناعات غالبية الموريتانيين، أكدت بما لا يقبل الشك، أن ولد الشين قتل ربما مع سبق إصرار وترصد، حيث استحضر بالقوة، وسجن تعسفياً دونما اتباع الإجراءات القانونية، ومنها معرفة وموافقة وكيل الجمهورية. ورغم تضارب الأقوال حول سبب استدعاء ولد الشين من قبل الشرطة، فثمة رواية يتناقلها أصدقاؤه من نشطاء حقوق الإنسان مفادها، أن صوت زميلهم الصوفي كان يرتفع نقداً لاذعاً وتقريعاً بمدير الأمن “مسغارو ولد اغويزي” الذي يسعى لترشيح ابنه ذي السوابق العدلية، فيستخدم نفوذه الأمني الواسع ليتم استدراج ولد الشين من نواكشوط الجنوبية، إلى مفوضية شرطة نواكشوط الشمالية التي يرتبط مفوضها “أسلم ولد سيدو” بصلات نسب وقرابة وحظوة بالغة لدى مدير الأمن “ولد اغويزي”.

حجم المشاركة الشعبية والرسمية الضخمة في تشييع الصوفي ولد الشين في نواكشوط، بيّنت حجم تفاعل وتأثر الموريتانيين بهذه القضية التي باتت قضية رأي عام لا تملك الدولة الموريتانية حيالها خصوصاً في ظل خوضها غمار مكافحة الفساد، إلا العمل على تغيير الذهنية البوليسية المجرمة والمتخلفة للإدارات الأمنية، ووضع ضوابط حقيقية تجعل مهمة الأمن سامية ونبيلة وَصِمَام أمان اجتماعي وقانوني وسياسي للناس، وليس قوّة متغولة ضد صاحب رأي غالباً ما يؤشر على الخلل والفساد توخياً للإصلاح.

ما لفتني في قضية الصوفي ولد الشين، أنها تتزامن في تاريخ حصولها مع ما تعرّض له العام الماضي، الإعلامي محمد ولد مين من الشرطة، والذي تحولت قضيته أيضاً إلى قضية رأي عام لم تنته فصولها إلّا بعدما وضع الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يده عليها، ومن موقعه كأب للموريتانيين جميعاً ربما عليه أن يولي اهتماماً بالغاً لتنظيف إدارات الدولة وتهذيبها، وهي معركة قاسية لا ينبغي أن ينتصر فيها غول الفساد والاستقواء وصرف النفوذ.