مع تلمس المجتمع الموريتاني لعصر الحداثة، ظهرت نخب رفضت المقاسات “الديكولية” لامتها الناشئة، كانوا في المجمل شبابا يافعين، لا يمتلكون من إمكانيات التحدي والمواجهة والتأثير سوى ارادة مثيرة للأعجاب، ينتمون لمشارب مختلفة، هاديهم نحو الإصلاح مناهج سلكتها شعوب فاستنارت بها، لم يكن رجل القانون القادم من مستنقع العهد الكولونيالي “أبو الأمة” رحيما بها كان في أذنيه وقر عن سماع المخالف، وبعقلية “املاز” وقسوة “كوميات” فتحت السرادب المظلمة لاستضافة كل صاحب رأي مخالف ، فأدمت السياط الظهور، واقتيدت حتى الحرائر مخضبات بدماء أظافرهن إلى المخافر، لتتوج المسيرة المحزنة بالمشهد الأكثر بشاعة خلال أحداث الزويرات.

بعد عقدين من صمود المعارضة الشابة، حل العقيد مكان المحامي في الحكم، وبعد عامين من لعبة الموت من أجل الكرسي، صفى الجو لأحد الضباط القساة، فقتل وعذب ونكل ونفى، وتتالت الخطوب والمحن، فلم يعد يسمع همس وحبست الانفاس.

وفجأة ومن خارج المُفَكر فيه أختفى العملاق السوفيتي، واستفرد الجبار الأمريكي، فارتعدت فرائص الكل فرقا مما تحمل الأيام الحبلى لعالم يدار بأزرار داخل اوكار الأشرار (المخابرات) فحملت الصدمة لبلد العجائب “موريتانيا” دستورا تعدديا -بشر به البيان رقم واحد من قبل- معه تصدر المشهد المعارض بارونات ما قبل عهد العقيد، الناقمين والمصممين على الانتقام من عهود عرفوا فيها السجن والمنفى، وحرموا من الامتيازات التي ألفوها كابرا عن كابر وهم يوافع، بل منهم من لم يثغر وكأنهم خلقوا لها وحدهم.

تصدروا المشهد المعارض، فلم يقدموا مشاريع مجتمعية تدمل جراح امة مثخنة بكلوم مآسي الماضي والحاضر، ولم يطوروا خططا تنموية وسياسية واعدة وقابلة للتَّمثُل، بل جيشوا وحرضوا بوقاحة مثيرة للشفقة، لعدم وجود أي وسيلة من وسائل التمكين لتحديهم، البعض منهم وبمكر استنجد القبيلة والشريحة والجهة والقومية، الثابت الوحيد الجامع هو أنهم أحق أن يتبعوا دون غيرهم، كما رسخوا في إذهان أتباعهم أن كل محن الوطن بدأت مذ غادروا هم السلطة.

هذه الخلفية المنسية أو المسكوت عنها عن “عمد”، خلقت ثقافة المعارض الباحث عن “الوظيفة السامية” فأسرع طرق الريع افتراش الرمضاء وسب وشتم النظام خلال وقفة بين فقراء مطالبين بجرعة ماء، يتلوها بيان “وبعد دراسة للواقع” فيمهد لصاحبه متكأ، ويسلم مفاتيح بها يحمل ألوية المولاة لمنازلة رفاق درب النضال.

المعارضة افرغها بارونات العهد القديم من جذوة النضال من أجل التغيير، واتخذها الانتهازيون مطايا ذللا عليها يعبرون،لا أمل يلوح في الأفق أنها ستأخذ مبادرة إصلاح داخلي، كل وفق مشاربه السياسية ومشاريعه الإنمائية وتوجهاته الاقتصادية، كما لا أمل يعلق على ان المولاة ستنجز إصلاحا او تغييرا نحو الأفضل، فالمسيرة كلها نسخ “غير متحورة” بل بطريقة “نسح والصاق” والأيام حبلى قد تنتج لا قدر الله غلمان سود كحمر ثمود، فالظرف مهيئ والمحيط مضطرب والحاضر مساعد لقيام انتفاضات غير متوقعة رغم أنها مستكملة الشروط، فالمستقبل غامض وكل الأبواب موصدة.