قراءة سوسيولوجية في الانتقال من أرستقراطية الخيمة إلى سلطوية المكتب Le bureau 

محمد المختار أحمد فال / باحث في الفلسفة 

ما يصل إليه بورديو بحذاقة شديدة الأهمية ضمن تحليله للمدرسة هو أن المدرسة لا تمثل فقط آلية ضبط وفرز عشوائيين ، وإنما ضمن المدرسة ينتظم ما يمكن أن يطلق عليه شرعنة الحيازات الاجتماعية أو رأس المال الاجتماعي بنموذج شكلاني يتم تبريره وحتى ترسيمه ordination – هذه العبارة الأخيرة يصر بورديو على أهميتها لما تحمله من معنى خاص لهذه العملية – من خلال رأس المال الثقافي وهو ما يوحي في الظاهر بعشوائية الفرز دون تدخل مؤسساتي ،يستعير بورديو شيطان ماكسيول الذي يتدخل في عملية الفرز ليعطي تقريبا عيانيا لهذه العملية ، ومعلوم أن ماكسويل يستخدم هذا المثال ليقرب كيفية تعليق فاعلية القانون الثاني للترموديناميكا .

ينتهي بورديو ضمن تحليله الخصب إلى تأكيد أن الأرستقراطية القديمة لم ينمح ولم تتلاشى إلا لتنبعث من جديد ضمن أرستقراطية علمية ، فالأطباء و كبار الصناعيين والإداريين وحتى السياسيين والقادة العسكريين كل هؤلاء حافظوا على هذه العملية الخاصة .

***

بإسقاط عياني بسيط لهذا التحليل على دولة الإستقلال الموريتانية نجد أنه تماما تم الانتقال من نموذج أرستقراطي قبلي إلى نموذج أرستقراطي علمي، استبدلت فيه النياشين والأوسمة الأرستقراطية بألقاب علمية ، مما يعني أن الحركية الاجتماعية في المجتمع الموريتاني لم تستبدل غير البرديغم Paradigme الأرستقراطي نفسه، لتبقي على الفاعلين ضمن تراتبيتهم الحادة وفق نموذج جديد تنمحي فيه شكليا على الأقل هذه التراتبية بالاستناد إلى رأس المال الاجتماعي .

الغريب أن هذه الأرستقراطية المتحورة تشتغل ضمن نطاق ما يمكن أن يطلق عليه مسعى “حفظ الذات ” وهو مسعى يتم العمل فيه على ديمومة هذا النموذج من خلال نظام أقرب ما يكون إلى نظام الوراثة العلمية وهي وراثة أيضا منقولة من النموذج القديم ليتم تسويغها وتأكيدها ضمن المدرسة (كل يحاول أن يورث أبناءه نفس المكانة العلمية )، ليتم بذلك الانتقال من النموذج السلطوي الأرستقراطي للخيمة إلى النموذج السلطوي الأرستقراطي للمكتب Le bureau .

اعتقادي الشخص أن هذا النموذج لن ينمحي في القريب العاجل خاصة أن الهيكلة الجديدة للمدرسة الموريتانية تدعم هذه الأرستقراطية بكل حيثياتها

(التعليم الحر ،المدارس التركية ، الفرنسية ،..) ورأي أننا ما لم نصل إلى المدرسة الجمهورية فلن يكون باستطاتنا بحث إمكانية خلخلة هذا النموذج في المدى المنظور .

كنت قد أكدت في مقال سابق على فكرة حيادية الدولة -كمؤسسة تنظيمية وحقل بيروقراطي- في فرض الوعي أو ترسيم التنوير والإصلاح ، غير أني أكدت في نفس المقال على فكرة مهمة وهي تواؤم إصلاحات الدولة كمؤسسة دائما مع منسوب الوعي الشعبي ، ولهذا أرى أنه و بالاستناد على بعض المتغيرات الاجتماعية التي فرضتها الزمنية الهاربة للعقل التقني وبعض المعطيات العربية المهمة خاصة بعد 2010م .

يتضح أنه على السلطة أن تراعي قانون التناسب والمواءمة(والمقصود هو أن الدولة في كل مراحلها تقوم بالإصلاحات وفق الوعي الشعبي بالحقوق والمتطلبات مما يجعلها تواكب حركة الوعي الشعبي فلا تتأخر عنه فتحدث الهزات العنيفة ولا تتقدم عليه فتصبح متسلطة وراديكالية) 

مما يعني أنها يجب أن تراعي هذا القانون إن هي أردات تفادي التغييرات الاجتماعية العنيفة، وأن تضع في حيز الاعتبار هذه الإشارات المهمة المتعلقة بالوعي الذاتي والتاريخي داخل كل تراتبية اجتماعية (قبلية ، شرائحية…)بفكرة الإقصاء والتهميش . 

إن التدخل السلطوي لا تجب أن يكون إلا مؤسسيا في صميميته وشموليا في وعيه بخارطة المعنى ضمن الفضاء العمومي ، ولهذا السبب بالتحديد يبدو مطلب المدرسة الجمهورية أكثر المطالب المؤسسية إلحاحا لإعادة فرز البنيات الاجتماعية وفق آلية جديدة تضمن قدرة الدولة كمؤسسة على مواكبة كل التغيرات الاجتماعية المهمة .

إن المدرسة الجمهورية في فكرتها الأساسية و التي أريد أن أبينها هي أنه طالما كان المواطنون الموريتانينون متساوون أمام القانون على الأقل صوريا فإنه من الضروري أن يكونوا متساوين أمام نوعية التعليم وهو ما يعني أن المخرجات التعليمية ستصبح منفلتة من الفرز المبني على التحكمية التي كانت تفرضها المدرسة حفاظا على بعض التراتبيات الخاصة وستصبح المدرسة في هذه الحالة آلية ضبط وفرز حيادية .

والحال أنه قد ينافح البعض ضد هذه المدرسة الجمهورية باعتبارها ليست حلا جذريا لمشكلات التوزيع العادل للثروة أو حتى لمشكلات التفاوت الأخرى، غير أن مطلب المدرسة الجمهورية لا يؤكد من منطلقه الداخلي والمؤسسي دائما أية ضمانات على المساواة في جميع الجوانب، وإنما يؤكد على أنه سيشكل الأساس العملي والتاريخي الذي سيمكن الدولة كمؤسسة من تطبيق كل الرهانات سواء منها ما هو تنموي أو حقوقي أو حتى ما يتعلق بالتوزيع العادل للثروة ، وهو ما يعني أن المدرسة الجمهورية ستشكل الأرضية التي من خلالها سيكون بإمكان الدولة أن تعيد توزيع الحيازات وفق هذا النظام الاجتماعي الجديد الذي ستفرزه المدرسة الجمهورية والذي من المفترض أن يكون خلوا من التراتبية أو مقلا منها، مع العلم أن المساواة المطلقة عصية على التحقق في العالم الإنساني الذي تحكمه الحرية بدل الضرورة، وإنما الهدف الأساسي هو تقليل التفاوت والعمل على أن تتم التهيئة المناسبة للأرضية الاجتماعية من خلال المدرسة الجمهورية التي ستجعل كل الموريتانيين بكل عرقياتهم وشرائحهم وفيئاتهم أمام نوعية التعليم نفسها .

بقي فقط أن نؤكد أن قانون التناسب المؤسسي إزاء الوعي الشعبي -الذي ذكرناه أعلاه- يؤكد ضرورة هذه المدرسة من أجل إعادة ضبط الخريطة الاجتماعية وإعادة الموازين وفق تراتبية جديدة تستند إلى فكرة المصالحة والتشاركية عوض الجذرية و التراتبية ، مما يعني تبيئة الأرضية المناسبة وتوفير الشروط القبلية لأي عدالة توزيعية مرجوة في المستقبل، أو حتى أي إصلاحات معيارية تناسب سياق المحافظة على الكيان .قراءة سوسيولوجية في الانتقال من أرستقراطية الخيمة إلى سلطوية المكتب Le bureau 

محمد المختار أحمد فال / باحث في الفلسفة 

ما يصل إليه بورديو بحذاقة شديدة الأهمية ضمن تحليله للمدرسة هو أن المدرسة لا تمثل فقط آلية ضبط وفرز عشوائيين ، وإنما ضمن المدرسة ينتظم ما يمكن أن يطلق عليه شرعنة الحيازات الاجتماعية أو رأس المال الاجتماعي بنموذج شكلاني يتم تبريره وحتى ترسيمه ordination – هذه العبارة الأخيرة يصر بورديو على أهميتها لما تحمله من معنى خاص لهذه العملية – من خلال رأس المال الثقافي وهو ما يوحي في الظاهر بعشوائية الفرز دون تدخل مؤسساتي ،يستعير بورديو شيطان ماكسيول الذي يتدخل في عملية الفرز ليعطي تقريبا عيانيا لهذه العملية ، ومعلوم أن ماكسويل يستخدم هذا المثال ليقرب كيفية تعليق فاعلية القانون الثاني للترموديناميكا .

ينتهي بورديو ضمن تحليله الخصب إلى تأكيد أن الأرستقراطية القديمة لم ينمح ولم تتلاشى إلا لتنبعث من جديد ضمن أرستقراطية علمية ، فالأطباء و كبار الصناعيين والإداريين وحتى السياسيين والقادة العسكريين كل هؤلاء حافظوا على هذه العملية الخاصة .

***

بإسقاط عياني بسيط لهذا التحليل على دولة الإستقلال الموريتانية نجد أنه تماما تم الانتقال من نموذج أرستقراطي قبلي إلى نموذج أرستقراطي علمي، استبدلت فيه النياشين والأوسمة الأرستقراطية بألقاب علمية ، مما يعني أن الحركية الاجتماعية في المجتمع الموريتاني لم تستبدل غير البرديغم Paradigme الأرستقراطي نفسه، لتبقي على الفاعلين ضمن تراتبيتهم الحادة وفق نموذج جديد تنمحي فيه شكليا على الأقل هذه التراتبية بالاستناد إلى رأس المال الاجتماعي .

الغريب أن هذه الأرستقراطية المتحورة تشتغل ضمن نطاق ما يمكن أن يطلق عليه مسعى “حفظ الذات ” وهو مسعى يتم العمل فيه على ديمومة هذا النموذج من خلال نظام أقرب ما يكون إلى نظام الوراثة العلمية وهي وراثة أيضا منقولة من النموذج القديم ليتم تسويغها وتأكيدها ضمن المدرسة (كل يحاول أن يورث أبناءه نفس المكانة العلمية )، ليتم بذلك الانتقال من النموذج السلطوي الأرستقراطي للخيمة إلى النموذج السلطوي الأرستقراطي للمكتب Le bureau .

اعتقادي الشخص أن هذا النموذج لن ينمحي في القريب العاجل خاصة أن الهيكلة الجديدة للمدرسة الموريتانية تدعم هذه الأرستقراطية بكل حيثياتها

(التعليم الحر ،المدارس التركية ، الفرنسية ،..) ورأي أننا ما لم نصل إلى المدرسة الجمهورية فلن يكون باستطاتنا بحث إمكانية خلخلة هذا النموذج في المدى المنظور .

كنت قد أكدت في مقال سابق على فكرة حيادية الدولة -كمؤسسة تنظيمية وحقل بيروقراطي- في فرض الوعي أو ترسيم التنوير والإصلاح ، غير أني أكدت في نفس المقال على فكرة مهمة وهي تواؤم إصلاحات الدولة كمؤسسة دائما مع منسوب الوعي الشعبي ، ولهذا أرى أنه و بالاستناد على بعض المتغيرات الاجتماعية التي فرضتها الزمنية الهاربة للعقل التقني وبعض المعطيات العربية المهمة خاصة بعد 2010م .

يتضح أنه على السلطة أن تراعي قانون التناسب والمواءمة(والمقصود هو أن الدولة في كل مراحلها تقوم بالإصلاحات وفق الوعي الشعبي بالحقوق والمتطلبات مما يجعلها تواكب حركة الوعي الشعبي فلا تتأخر عنه فتحدث الهزات العنيفة ولا تتقدم عليه فتصبح متسلطة وراديكالية) 

مما يعني أنها يجب أن تراعي هذا القانون إن هي أردات تفادي التغييرات الاجتماعية العنيفة، وأن تضع في حيز الاعتبار هذه الإشارات المهمة المتعلقة بالوعي الذاتي والتاريخي داخل كل تراتبية اجتماعية (قبلية ، شرائحية…)بفكرة الإقصاء والتهميش . 

إن التدخل السلطوي لا تجب أن يكون إلا مؤسسيا في صميميته وشموليا في وعيه بخارطة المعنى ضمن الفضاء العمومي ، ولهذا السبب بالتحديد يبدو مطلب المدرسة الجمهورية أكثر المطالب المؤسسية إلحاحا لإعادة فرز البنيات الاجتماعية وفق آلية جديدة تضمن قدرة الدولة كمؤسسة على مواكبة كل التغيرات الاجتماعية المهمة .

إن المدرسة الجمهورية في فكرتها الأساسية و التي أريد أن أبينها هي أنه طالما كان المواطنون الموريتانينون متساوون أمام القانون على الأقل صوريا فإنه من الضروري أن يكونوا متساوين أمام نوعية التعليم وهو ما يعني أن المخرجات التعليمية ستصبح منفلتة من الفرز المبني على التحكمية التي كانت تفرضها المدرسة حفاظا على بعض التراتبيات الخاصة وستصبح المدرسة في هذه الحالة آلية ضبط وفرز حيادية .

والحال أنه قد ينافح البعض ضد هذه المدرسة الجمهورية باعتبارها ليست حلا جذريا لمشكلات التوزيع العادل للثروة أو حتى لمشكلات التفاوت الأخرى، غير أن مطلب المدرسة الجمهورية لا يؤكد من منطلقه الداخلي والمؤسسي دائما أية ضمانات على المساواة في جميع الجوانب، وإنما يؤكد على أنه سيشكل الأساس العملي والتاريخي الذي سيمكن الدولة كمؤسسة من تطبيق كل الرهانات سواء منها ما هو تنموي أو حقوقي أو حتى ما يتعلق بالتوزيع العادل للثروة ، وهو ما يعني أن المدرسة الجمهورية ستشكل الأرضية التي من خلالها سيكون بإمكان الدولة أن تعيد توزيع الحيازات وفق هذا النظام الاجتماعي الجديد الذي ستفرزه المدرسة الجمهورية والذي من المفترض أن يكون خلوا من التراتبية أو مقلا منها، مع العلم أن المساواة المطلقة عصية على التحقق في العالم الإنساني الذي تحكمه الحرية بدل الضرورة، وإنما الهدف الأساسي هو تقليل التفاوت والعمل على أن تتم التهيئة المناسبة للأرضية الاجتماعية من خلال المدرسة الجمهورية التي ستجعل كل الموريتانيين بكل عرقياتهم وشرائحهم وفيئاتهم أمام نوعية التعليم نفسها .

بقي فقط أن نؤكد أن قانون التناسب المؤسسي إزاء الوعي الشعبي -الذي ذكرناه أعلاه- يؤكد ضرورة هذه المدرسة من أجل إعادة ضبط الخريطة الاجتماعية وإعادة الموازين وفق تراتبية جديدة تستند إلى فكرة المصالحة والتشاركية عوض الجذرية و التراتبية ، مما يعني تبيئة الأرضية المناسبة وتوفير الشروط القبلية لأي عدالة توزيعية مرجوة في المستقبل، أو حتى أي إصلاحات معيارية تناسب سياق المحافظة على الكيان .