بقلم: (الشيخ نوح)

في السنة ذاتها التي رأت موريتانيا فيها النور، كدولة مستقلة عن الاستعمار الفرنسي، ولدت الفنانة المعلومة منت الميداح في الجنوب الغربي من البلاد، وبالتحديد في مدينة المذرذرة بولاية ترارزه.
في مرحلة مبكرة من حياتها، وكأية فتاة تنحدر من وسط فني – بحسب التركيبة القائمة على تقاسم الأدوار بالانتماء العائلي في المجتمع الموريتاني- جعلت المعلومة من حبالها الصوتية صندوقا سريا للأنغام والأغاني، وإن توقفت في فترة محددة عن الغناء بعد زواجها.
غير أن الفنانة، التي كادت الألحان والإيقاعات تجري في عروقها بدل الدم، ما لبثت أن عادت إلى شغفها ومشروعها الفني، وبشكل أكثر قوة، وأسطع حضورا داخليا وخارجيا، فاكتشفها العالم العربي في تونس منذ منتصف الثمانينات (1986) عبر خالدتها “حبيبي حبيتو”، والتي لن تكون فقط بطاقة عبورها إلى العالم العربي، و إنما ستظل بطاقة تعريف للموريتانيين في الخارج على مدى العقود التالية، حيث اعتادوا من أخوتهم العرب ذلك السؤال المتكرر على غرار الزوابع في هذه الصحراء : هل أنتم من موريتانيا؟ بلد المعلومة وحبيبي حبيتو؟!.
لم ترض الفنانة التي يختلط النغم بالثورة في كيمياء دمها بأن تسير على خطى الأقدمين مرددة أغانيهم، فالمعلومة أكبر من أن تكون مجرد صدى لأصوات غابرة، ما قادها إلى اختراع طريقتها الخاصة في الغناء، عبر تطوير الموسيقى الموريتانية، مازجة بين الموسيقى الشعبية وبين البلوز والجاز وحتى الأليكترو، في خلطة غير مسبوقة، ليس لها من اسم سوى “طريقة المعلومة وفن المعلومة”.
لا شك أن الدرب في هذه المهمة لم يكن مفروشا بالورود في مجتمع “سلفي” عابد للماضي، وتقليدي يكاد يكون مصفّحا أمام هبّات وعواصف الحداثة التي مست كل شيء، إذ تعرضت المعلومة لحملات تشويه وتنمر، تتهمها بالعبث بالتراث وتلصق بها جريرة الانسلاخ، بل تعرضت حتى إلى حملات تشهير مست كرامتها وشخصها في مناسبات كثيرة، فاتهمت بالجنون طورا و”بالغيرة” مرة، عبر لعبة قذرة ساهمت فيها استخبارات ولد الطايع، لا سيما بعد أن اتخذت الفنانة الثائرة موقفا راديكاليا وجذريا من الأنظمة الديكتاتورية (خاصة نظام ولد الطايع) في بلدها، وجعلت اسمها وفنها في خدمة التغيير، من خلال الاصطفاف مع المعارضة السياسية، وهو الأمر الذي جلب عليها نقمة واحد من أكثر الأنظمة التي حكمت موريتانيا دموية، وانتهاكا لحقوق الإنسان، وتنكيلا بالمعارضين.
ظلت المعلومة قابضة على جمرتي الرفض والفن، وهي تمرر عبر صوتها الاستثنائي مواقفها الثورية ورؤيتها الفنية ومشروعها الموسيقي الإبداعي. هذا الصوت الذي فتح بوابات العالم لموريتانيا، وجعل اسمها يُتداول وعلَمها يرفرف في أكثر المحافل الدولية الفنية “برستيجا”، غير عابئة بما تتلقاه من جحود وحرب من ذوي القربى، ومن يتشاطرون معها البلد والانتماء الوطني، دافعة بذلك ثمنا باهظا ومكلفا لرفضها السير مع القطيع وتبرير اللامعقول، وحالمة في الآن ذاته بتحرير بلدها من الأنظمة الاستبدادية والجائرة والظالمة، وبغرس موسيقى حديثة وحداثية في الوجدان الموريتاني.

من كان يتصور المعلومة في قبة البرلمان؟

في عام 2002 طلعت عليها صحيفة نيويورك تايمز بلائحة لأفضل الفنانين في العالم لهذه السنة، وقد جاءت المعلومة منت الميداح في المرتبة الثالثة، غير أن نظام ولد الطايع الذي كان يترنح في بداية نهايته، وإعلامُه كذلك، لم يعطيا هذا الحدث ما يستحق، ومر تحت الضجيج المفتعل أحيانا والمبرر أحيانا أخرى لقضايا كانت الشجرة التي غطت الغابة.
وقيل إن ولد الطايع في إحدى فورات غضبه على الفنانين الموريتانيين الذي كانوا يغسلون أدرانه بأصواتهم، وكذلك وزارة ثقافته، استغرب من كونهم غير قادرين على الانتصار “على صوت واحد ما زال يحرج النظام، ويحقق اختراقات عجزوا عنها مجتمعين”.
كما يعلمنا دوما أستاذنا التاريخ، ذلك العجوز الذي قد ينسى ولكنه لا يخرف، فإن بلوغ الذروة ليس سوى مقدمة صامتة وجذلة للانهيار المأساوي المدوي. لقد جاءت نهاية حكم الديكتاتور معاوية ولد الطايع عبر انقلاب عسكري قاده مدير أمنه لعشرين عاما أعل ولد محمد فال، لتبدأ مرحلة أخرى من التاريخ السياسي الموريتاني الحزين.
في هذه اللحظة الحرجة والمفصلية من تريخ البلد، توجت المعلومة مشوارها السياسي بعد سقوط ولد الطايع (06 أغشت 2005) بانتخابها عام 2007 عضوا في مجلس الشيوخ الموريتاني عن حزب تكتل القوى الديموقراطية الذي ظلت نشطة فيه منذ تأسيسه.

تكريمات وجوائز دولية وإصدارات موسيقية

حصدت المعلومة عديد التكريمات والجوائز العالمية بعد ذلك، ولعل أشهرها جائزة البي بي سي لموسيقى العالم عام 2008؛ بوصفها الفنانة الأولى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما حصلت على جائزة المرأة الشجاعة التي تقدمها الديبلومسية الأمريكية عام 2013، بالإصافة إلى الحصول على وسام فارس في جوقة الشرف في نظام الاستحقاق الوطني الفرنسي من طرف الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي عام 2015.
وأصدرت المعلومة خلال مشوارها الفني عدة ألبومات من أشهرها ألبومي “صحراء” ثم “عدن” (عام 1998) وألبوم “دنيا” (عام 2004) وألبوم “نور” (عام 2007) وألبوم “أكنو” (عام 2014)، كما أصدرت عدة أغان منفردة كان لها نجاح كبير مثل (عشقنا) و(مغرور) (ويا مليحة القد( و (يا حبيبي) و(مكتوب)…إلخ
حقق ألبومها “نور” الصادر عام “2007” المرتبة الخامسة في بلجيكا، وشاركت في عشرات المهرجانات الدولية والفعاليات الفنية عبر العالم، وتناولت مسيرتها الفنية كبرياتُ الصحف العالمية والعربية ووسائل الإعلام مثل “لوموند” و”نيويورك تايمز” و “إذاعة فرنسا الدولية”
وعارضت الفنانة الملتزمة حكم الجنرال محمد ولد عبد العزيز، كما وقفت في وجه التعديلات الدستورية التي أجراها، داعمة أعضاء مجلس الشيوخ الذي اضطر ولد عبد العزيز لحله، وكلفها الأمر مصادرة جواز سفرها لأكثر من سنتين ومنعها من السفر وعزلها عن الأوساط الفنية العالمية.

هل يظل السؤال معلقا؟..

غير أن السؤال الذي يطرحه المرء، وهو يتصفح هذه السيرة الغنية وهذا المشوار الموسيقي الثري وهذه التكريمات الاعترافات، هو متى سيتم تكريم المعلومة وطنيا والاعتراف بإسهاماتها وإسهامات كل الموريتانيين، الذي تم إقصاؤهم وحوربوا بسبب مواقفهم وقناعاتهم، ومتى سيتسع هذا البلد لكل أبنائه مهما اختلفت قناعاتهم الفكرية والسياسية؟.
نطرح هذا السؤال وقد علمنا أن المعلومة أبعد ما تكون عن التقاعد عن الفن، الذي يمثل لها مبرر وجود وصيغة حياة، حيث تحضّر لإصدار أعمال فنية جديدةفي القريب، تغني فيها بكل اللغات الوطنية، تجسيدا لرؤيتها لموريتانيا التي نحلم بها جميعا؛ تلك التي لا تضيق بأي من أبنائها، لتظل المعلومة تلك الفنانة الثائرة التي تنحني للنسيم ولا تنكسر للعاصفة.