نواكشوط – خديجة لحبيب

أمام أحد فنادق نواكشوط وفي صباح اليوم الثالث بعد عرسه البهيج، أقدم السيد ” ط” على إضرام النار في نفسه، لم يكن الحدث عاديا، لقد انتظر ” ط” بلهفة ذلك اليوم الذي يتزوج فيه من الفتاة التي أحبها، دون أن يدري أن ذلك اليوم سيشكل منحى آخر في حياتهما وقصة أخرى من غرائب ما تجود به قرائح الأقدار، حين تقرر أن تحيل ابتسامة ناضرة إلى دمعة حائرة .

لقد امتزج “السحر” بالحب فكانت النتيجة غير متوقعة، وبشعة وموت حارق، فمن لب اليأس و الانتصار لذكورة “مختطفة” بفعل اجتماعي شائع في مجتمع تقليدي برز قرار السيد ” ط” بإنهاء حياته.
إنه السحر ذلك الذي يستخدمه البعض كوسيلة شيطانية لتحقيق رغباتهم من خلال وكلاء يعرفون ب”الحجابة”، ومن خلال علاقتهم ب “كناش” مليئ بالرموز والجداول والطلاسم، يضعون نهاية لحياة كثر دون أن يكون هناك مسؤول يحاسب أمام القانون لا على الفعل أو ردة الفعل.

كان”ط” وهو يحضر نفسه لأمر طالما أنتظره بحرقة المشتاق إلى عالم الوصول، لا يدري أن “نفثة” مصدور سيترجمها “حجاب” في تعويذة داخل قفل، ستغير مجرى كل شيء، وستفقده أغلى ما يملك وأدق حبر يرسم صورته في أعين الآخرين باحترام واحتراف، وتجعله بمقاييس الرجولة الشرقية عاجزا وذليلا في يوم عزه.

ولأنه تكوينه النفسي أضعف من أن يتحمل سخرية مجتمعه من “عجزه” ، دفعته مرارة استلاب هيبته ” الذكورية” ونظرات ازدراء مجتمع كان ينتظر بأكمله غير الذي وقع..إلى انتصار على شكل الانتحار، عبًر عنه صبيحة اليوم الثالث من زواجه بإضرام النار في جسده أمام الفندق ضحى وهو يكرر عبارات توحي بنوع من رد الاعتبار لشرف مسلوب أمام مجتمع مكبوت لا يرحم إذا تعلق الأمر بتقدير ” الرجولة” وقيمها الوصفية،. كان يعطي بذلك رسالة مفادها أن صبره على ألم النار وهي تلتهمه حيا أهون عليه من تساؤلات مجتمع تحتاج الإجابة بمستوى من الشجاعة ولامبالاة غير متاح للجميع.

إن اللحظة التي قرر فيها السيد ” ط” أو أي إنسان آخر بكامل وعيه و إرادته، وعن سبق إصرار ومعرفة بنتيجة الفعل وبعواقبه في مقياس الدين والمعتقد،أن ينهي حياته، تستدعي منا أن نتوقف عندها تساؤلا وبحثا وسبرا لأغوار تلك الظاهرة التي تعد من أكثر الظواهر التي حيرت العالم.

ففي الوقت الذي تحنو فيه الفطرة الإنسانية إلى التشبث بالحياة في عالم توفرت فيه كل مغريات الحياة من تطور على جميع الأصعدة وفي مختلف المجالات، نجد أن هناك من يتمردون على كل هذا ويقررون في لحظة أن يضعوا حدا لحياتهم!.

وقي مفترق طرق الاحتمالات ونحن نحمل كامل التساؤل عن الدوافع التي تجبر الإنسان على اتخاذ قرار حاسم هكذا…يخضعنا إغراء التساؤل إلى تحديد مفهوم الانتحار نفسه ومن زوايا متعددة لتوضح الصورة أكثر وليكون التحليل أكثر وجاهة علمية ومرونة من أجل إسقاطه على الواقع الموريتاني الذي يكتسي بعدا أكثر تعقيدا نظرا لتضافر عدة عوامل اجتماعية أدت إلى تطورت كبير في كيفية وكمية تنوع وتنامي هذه الظاهرة بالمقارنة مع الحقب الزمنية الماضية..

والغريب أن أغلب الناس لا يصدقون أن هناك حالات انتحار متزايدة في موريتانيا، سواء من الناحية الكمية أو النوعية، فاختلاف الأدوات المستخدمة في هذه العملية حسب سجلات الشرطة يعطي للموضوع أبعاد اجتماعية أخرى يغذيها أكثر تجاهل المجتمع .

لقد حصلت أثناء إعدادي لهذا التحقيق على إحصائيات تتضمن أرقاما ومعطيات مهمة لتوضيح المستوى الكمي لهذه الظاهرة عبر سنوات مختلفة..

المصدر : إحصائيات إدارة الأمن.

نلاحظ من خلال هذا الجدول اضطراب أرقام المنتحرين وارتفاع عددها مع تقدم السنوات حيث تضاعف العدد في السنوات الأخيرة وتجدر الإشارة أنه لم نتمكن من الحصول على معلومات حول السنوات الفاصلة بین 2007/2012، وغيابها من السجلات التي حصلنا على معلومات عنها من المحكمة الجنائية، وكذلك لم نتمكن من بعض التفاصيل المتعلقة بالخصائص العمرية والجنسية و التعليمية لهذه الأعداد الأمر الذي قد يساعدنا في المزيد من التعمق في التحليل، لكننا نستطيع الجزم أن ثمة عوامل عديدة تدفع نحو تلك الظاهرة ولا يقتصر الأمر هنا على دوافع السيد “ط” فقط.

ففي ظروف وسيناريو مختلف يكشف أبعادا أخرى للظاهرة ومسبباتها تأتي قصة الفتاة ” م” التي ولدت في ظرف زماني ومكاني يناغي بالحرية ويتخذ فيه السجن وكبت الحريات إجراء لعقاب السجناء فقط، وبينما تدفع أحلامها بكف وتمسح دموع قهر بكف أخرى وجدت نفسها مسجونة بين أربع جدران دون أن ترتكب جريمة محددة، فقط لأن مناظر خادشة للحياء لمحها والدها وهو مار من أمام إحدى المدارس الإعدادية، كانت سببا وجيها في نظره لتأديب الفتاة على احتمال أو افتراض أنها “قد” تفعل مثل ما رأى الآخرين يفعلونه من سوء ، لقد قرر أن يصادر أحلامها وطموحاتها الدراسية بناء على أوهامه الشخصية وسوء ظنه حتى بفلذة كبده، ودون أدنى تردد ولا رحمة حاصر أحلامها في حجرة صغيرة في منزلهم، لتستحضر المسكينة فقط أن الخلاص من هذا السجن القسري يكون بالموت ولا شيئ غيره، ..فكان تنفيذ حكم الإعدام بنفسها في لحظة من لحظات انهيار التحمل وانزواء العقل، وكانت نهاية غير متوقعة شكلت صدمة حقيقة لمجتمع بأكمله.

و قد يرى البعض من خلال حكاية السيد ” ط” والفتاة ” م” وأشباههما، أن عملية الانتحار مسألة شخصية تخص المنتحر وحده، إلا أننا واستنادا على عدم القول بأحادية العامل في الظواهر الاجتماعية نعتبر أنه وإن كان مسألة شخصية إلا أنها لا تخرج عن النطاق الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد.

و للقوى الاجتماعية المحيطة بالمنتحر بالإضافة إلى حالته النفسية والتناقضات التي تظهر في البناء الاجتماعي كلها عوامل تتكامل لتدفع الفرد في لحظة يأس وترهل تماسكه في قوة علاقته بالواقع إلى اتخاذ قرار بوضع حد نهائي لعلاقته بهذا الواقع الذي لم يعد بإمكانه أن يحتوي إحباطه ويأسه من الظروف المحيطة به.

لتفسير الدوافع التي تجبر الميت أن يكون هو فاعل موته يجب أن نحلل هذه العوامل ونسقطها على الواقع المحلي للمجتمع الموريتاني ومقارنتها على حالات الانتحار التي حصلنا على معلومات عنها في هذا التحقيق.

إن الطبيعة البنيوية للمجتمع الموريتاني والتي تكسبه خصوصية تكتسي مختلف الظواهر الاجتماعية الموجودة فيه،تطبع كذلك ظاهرة الانتحار كظاهرة اجتماعية ارتفعت نسبتها مؤخرا في هذا المجتمع حسب آخر الإحصائيات الرسمية في هذا الجانب.

و يتميز المجتمع الموریتانی بتعقيد بنیته الاجتماعية وعدم تجانسها وتعقد العادات والتقاليد والأعراف داخل هذه البنية، مع قوة الضبط الاجتماعي للأفراد فيه وكذلك قوة تأثير الوصم الاجتماعي داخله، الأمر الذي يلعب دورا حاسما في علاقته بأفراده.

فمعظم حالات الانتحار التي حصلنا على معلومات حولها في هذا التحقيق. لها صلة مباشرة وبالغة بالعوامل الاجتماعية التي تحكم علاقات المجتمع بأفراده.وكذلك التناقضات التي تظهر في النسق والتي تدفع غالبا بعض الأفراد غير المحصنين سيكولوجيا إلى حالات حادة من الاكتئاب واليأس تدفعهم إلى وضع نهاية لحياتهم كردة فعل على هذا المجتمع.

ويرى بعض الباحثين أن ضعف التضامن بين أفراد المجتمع وكذلك قوة الضبط الاجتماعي للأفراد من الأسباب التي تدفع أغلب الأفراد إلى الانتحار

إن التحول المفاجئ ودون تمهيد من حالة التضامن الآلي التي كانت تسود المجتمع التقليدي الموريتاني، تجعل الفرد هنا يجد نفسه أمام تناقضات بالغة في النسق وتحول فرضته المدينة وأدى إلى تراجع التماسك الاجتماعي بين الأفراد مع بقاء قوة ضبط المجتمع لهم، وقدرته و على نبذهم كأفراد، عند أول اختراق للنظم التي تحكمهم.

لقد تبين لنا من خلال الاستقصاء الميداني أن الأسباب و الدوافع التي أدت ببعض الأشخاص إلى الانتحار في السنوات الأخيرة حسب السجلات القضائية و عبر المقابلات التي أجريتها مع ذوي المعنيين وهي تأتي مترتبة كالتالي و حسب انتشار كل سبب بين صفوف المنتحرين:

_اضطرابات نفسية غير محققة: يتميز المجتمع الموريتاني بطبيعته الكتومة على كثير من الأمراض النفسية وعدم اعترافه بها إلا في حالات الجنون التام، حيث سجلت اعترافات من الأهالي باضطرابات نفسية لدى بعض المنتحرين مع تجاهلهم لعلاجها.

_التأثر للاواعي لوسائل الإعلام: انفتاح المجتمع الموريتاني الغير محصن على الإعلام أدى إلى تأثير كبير للمواد الإعلامية في صفوف أفراده، حيث أكد وكيل الجمهورية في محكمة نواكشوط الجنائية(قصر العدل) في دراسة أجريناها على ذات الموضوع سنة 2012 أن آکثر حالات الانتحار التی سجلت بشکل رسمي كانت في سنتی : 2007-2012 .

وأن معظم الوسائل المستخدمة في عملية الانتحار لها صلة بوسيلة قتل صدام حسين، وكذلك وسيلة انتحار التونسي البوعزيزي اللتين تناقلتهما وسائل الإعلام بشكل واسع.

_تعاطي المخدرات: حيث تم تأكيد تعاطي بعض المنتحرين للمخدرات قبل انتحارهم .

_الأمراض العضوية: في الحالات التي يشعر فيها الفرد باليأس من الحياة من خلال إصابته بأحد الأمراض القاتلة يقرر في لحظة يأس وشعور بالعزلة أن يضع حدا لحياته وانتظاره للموت وقد سجلت حالة انتحار بسبب الإصابة بالسيدا.

_الخوف من العار: إن الطبيعة الصارمة للمجتمع الموريتاني وحساسيته المفرطة اتجاه المسائل المتعلقة بالجنس بشكل عام. خاصة ما بات يعرف بمفهوم “الشرف” يجعل يتخذ إجراءات صارمة حين يتعلق الأمر بأخطاء أخلاقية مما يجعل الفرد أمام خيار مواجهة المجتمع يفضل الانتحار على العقاب الاجتماعي وهذا السبب يكثر لدى النساء خاصة اللواتي يتعرضن لحمل غير شرعي .وقد سجلت حالات انتحار نتيجة لهذا السبب في صفوف النساء.

_البطالة: يعد الفراغ من أهم العوامل النفسية التي يتأثر بها الإنسان خاصة مع المادية المفرطة لمجتمعات تتحدد في أغلبها قيمة الفرد انطلاقا من رأس ماله مع تعقد الحاجات لذلك تعتبر البطالة من أسباب الانتحار ودوافعه وقد سجلت حالة انتحار لشاب كان يدرس في الخارج وعندما جاء إلى وطنه لم يحصل على العمل اللائق وشعر بوحدة لم يملأها إلا التخلص من حياته سنة 2007
_الكبت: تعد قوة الضبط والتحكم السلبي في حياة الأفراد من قبل المجتمع من الأسباب التي تشعر بتقييد الحرية وتحفز البعض للرد عليها بفعل قد يكون متهورا بدرجة الشعور ببغض هذا المجتمع والسخط من نظمه مما يدفع إلى ردة فعل غير محسوبة العواقب.

لقد أولينا اهتماما بمحاولة التحقيق في الوسائل المستخدمة في عملية الانتحار ورتبناها حسب الأكثر شيوعا كالتالي:.

-الشنق:وهو الوسيلة الأكثر شيوعا وانتشارا لدرجة أن كل حالات الانتحار المسجلة في

. انتحروا بذات الوسيلة بالإضافة إلى حالات أخرى من باقي السنوات الأخرى لتعتبر بذلك هي الوسيلة الأكثر استخداما في الانتحار في موريتانيا.2007

-الحرق: وهي وسيلة أخرى كثيرا عقب الألفين وأثنى عشر حيث أربع حالات انتحار بنفس الوسيلة في نفس العالم .

-الأدوات الحادة: سجلت حالات وإن كانت قليلة مقارنة مع انتشار الوسيلتين السابقتين إلى أن هناك حالات انتحار سجلت بهذه الأداة.

-التردي من الشاهق: وهي كذلك من أقلهم شيوعا ولكن تم تسجيل حالات انتحار كذلك بنفس الوسيلة .
وتعتبر الأيام الأخيرة في حياة كل منتحر مثار تساؤل وحيرة وقد حصلنا من خلال مقابلات في بحث ميداني حول الموضوع أن نحصل على شهادات أهالي بعض المنتحرين حول الأيام الأخيرة في المنتحر حيث أعترف الأهالي في استجواباتهم أمام القضاء بآن هناك حالات على غير العادة تطرأ على سلوك معظم المنتحرين في أيامهم الأخيرة ومنها:

-كسر الروتين: إذا كان المنتحر لديه مسائل معتادة فإنه في أيامه الأخيرة يغيرها فعلى سبيل المثال ما حدث لمن انتحروا في سنة”2012″، لم يكن يغادر المنزل وفي أيامه الأخيرة

كثرة التحدث عن الموت: كما أنهم كثيري الحديث عن الموت

القلق والوحدة وكثرة التفكير: وقد أكد القضاء انطلاقا من التحقيقات أن المنتحر يعاني دائما من بعض القلق والوحدة كما أن ذهنه يشرد أكثر من قبل في تلك الأيام.

وتعتبر هذه الحالات النفسية من شرود ومستوى من المحافظة على التدين ك نوع من إرضاء الضمير الذي لا شك يؤنب صاحبه على غموض المغامرة التي سيخوض والتي يعرف مسبقا الرأي الديني والحكم الاجتماعي عليها.

والتي يدفعه لها انهياره وضعفه أمام سطوة هذا المجتمع لا يرحم ضعيفا ولا يتقبل خطأ مخطئ.

و في الطرف الآخر من لوحة الفاجعة المؤلمة ، وبين لوعة الألم ووجع الفقد يجد أهالي المنتحرين أنفسهم بين سندان ألمهم على فقدان ابن أو ابنة قررا ذات لحظة ضعف أن ينتحرا ، وبين مطرقة إدانتهم للفعل المحرم في الدين الإسلامي حرمة بالغة، ويتضافر ذلك مع نظرة المجتمع لا ينظر إلى الظروف والدوافع التي أودت بأبنائهم إلى هاوية الانتحار، عندئذ يكون الأهالي مضطرون إلى تحمل وتلقي العتاب بدل العزاء.

ویمکن القول إجمالا أن السيد (ط) وأشباهه حين قرروا أن ينتحروا نحرو في نفس الوقت كل من يرتبط معهم بصلة مجتمعية وبأداة هي المجتمع نفسه،إننا أمام ظاهرة تستدعي أكثر من مجرد قرع أجراس وأكثر من مجرد هذا التحقيق الاستقصائي.