على مقربة من دوار مدريد وسط العاصمة نواكشوط يضرب الرجل الأربعيني خباءه على عربته المحملة بأنواع الفواكه المختلفة الأصناف التي تمثل كل مصادر ثروته في هذه الدنيا، أو قل كل ثروته بعد كتابه ومصحفه الذي يعتبره كل ما يملك.

يجلس الأربعيني ذو الست بنات والثلاثة أولاد على مقربة من مملكته؛ عين على البضاعة وأخرى على صفحة بين دفتي كتاب، لا يفارقه مذياع صغير ينفذ منه نحو العالم، كما لا يفارقه الميزان الذي يشري به ويبيع.

يجلس مصطفى كل صباح على مقعد بالقرب من عربته بعد أن يحضر باكرا من منزله، رغم ضجيج المكان وصخبه، ورغم ضغط البيع والشراء والتنقل الذي تفرضه عليه مهنته؛ يحرص على القراءة يوميا لمدة ثلاث ساعات دون أن يقبل التنازل عن ذلك تحت أي ظرف مهما كان.

حاورنا المصطفى حول تجربته في القراءة والتعلم، وكذا عن ظروف عمله وما يواجهه فيه من مصاعب وتحديات، وحدثنا عن نظرته للوطن والسياسة والعسكر في موريتانيا، وعن العبودية وحركة إيرا والمشكل الاقتصادي في البلاد، كما لم يخل الحديث من تشخيص لواقع الدول العربية والإسلامية والوضع في فلسطين، والربيع العربي وسيطرة طالبان على الإقليم الأفغاني، وأين يوجد مصطفى من كل ذلك.

ـ من بيئة رعوية وزراعية غير متعلمة خرج البائع المتعلم:

أواخر العام 78 من القرن الماضي بقرية امبيدانالواقعة على أطراف بلدية چلوار التابعة لمركز مال الإداري (أو مقاطعة مال حسب بيان مجلس الوزراء الأخير) خرج مصطفى إلى هذه البسيطة، تربى كما يتربى كل أترابه، نشأ في أسرة تعتمد في مصدر رزقها على زراعة الأرض ورعي المواشي ولم يكن بالطبع من أولوياتها التعلم.

يتذكر مصطفى بكل تفاصيل المشهد وفي زهو لا تخطئه العين كيف كان يختلف إلى معلم الصبيان بالمدينة من حين لآخر وإن كان ذلك لا يرضي كثيرا الأب الذي يريد من ابنه أن يساعده في الحرث والرعي لتحصيل لقمة العيش، وإن لم يكن يبدي اعتراضه الصارم على ذلك الأمر.

عاش الصبي بين هذا وذاك وهو يحاول المزاوجة بين الأمرين؛ مساعدة أبيه في كسب قوت يومه وبالقدر ذاته دون أن ينسى نصيبه من طلب العلم والمعرفة.

كبر الصبي وأصبح فتى يافعا ثم مراهقا على أعتاب السبعة عشر ربيعا؛ فقرر السفر إلى مدينة روصوبأقصى جنوب غرب موريتانيا، وحين نزل بدار خاله هناك وسأله عن سبب قدومه أجاب: “جئت من أجل التعلم”، ثم أردف: “وسأبحث أيضا عن عمل يساعدني”، وهي مزاوجة بين الأمرين ظلت تطبع حياة مصطفى، وإن كانت الظروف بعد زواجه فرضت عليه أن يعطي اهتماما أكبر للعمل ولكن ليس على حساب التعلم الذي يأمل أن لا يتنازل عن نصابه اليومي منه تحت أي ظرف.

عاش صاحبنا في مدينة روصو تاجرا بالسوق وطالبا في المحاظر هناك، تزوج ورزق بأبناء وبنات وحرص أثناء تلك المسيرة كلها أن يظل طلب العلم رائده في كل ذلك، لم تكن زوجه متعلمة ولكنها أصبحت تحب العلم وطلبه حين رأت تعلق زوجها به، وكلَّف الزوج من يقوم بتعليم الأولاد في البيت العلوم الشرعية التي يرى أنها أنفع العلوم وأهمها، وباستثناء الابن الأكبر الذي يدرس الآن المرحلة الإعدادية فإن مصطفى لا يركز في تعليم أبنائه سوى على العلوم الشرعية المحظرية حتى الآن.

مطلع العام 2021 ودع صاحبنا مدينة روصو بعد ربع قرن من العشرة، وانتقل إلى المقام في العاصمة نواكشوط بائعا للفواكه على عربة وسط زحام دوار مدريد.

مقام هانئ ووادع في كثير من فصوله ولا ينغصه شيء كما ينغصه عمال البلدية حين يقررون حرمان مصطفى وأصحابه من عرض بضاعتهم على المارة بحجة أن الشارع لا يُسمح بالعرض عليه، “ويستكثرون علينا حتى عرض بضاعة تحت لهيب الشمس على قارعة الطريق” يواصل مصطفى حديثه بغصة بادية، ويختم بشيء من الأمل: “الحمد لله منذ ثلاثة أشهر لم نر عمال البلدية إلا مرة واحدة حين قدموا يطلبون منا الانتظام والتأخر قليلا عن الشارع ولم يحاولوا طردنا كما كانوا يفعلون”.

يجلس صاحبنا كل صباح أمام عربته ويحرص على أن يبدأ يومه بتلاوة القرآن لمدة ساعة ونصف تقريبا، كما يحرص على أن ينهي يومه بالقدر ذاته من الوقت بصحبة كتاب رياض الصالحين للإمام النووي، وبين هذا وذاك يبيع ويشتري ويراقب المشهد ويصب كؤوس الشاي له ولمن حوله تاركا مذياعه يصدح بكل تناقضات العالم.

ـ نقدٌ لواقع البلد وتطلعٌ لوطن أجمل:

يسرتجع الرجل القادم إلى العاصمة تَوًّا ذكريات الصبا وكيف كان شاهدا على ممارسات الاسترقاق التي كان يراها بعينيه في قريته؛ استعباد الإنسان لأخيه الإنسان وإذلاله له وسلبه حقوقه، “ورغم أن هذه الصفة لم تكن الطابع الغالب إلا أن لها حضورا لا بأس به” يضيف مصطفى بشيء من الحسرة والأسى.

ولكنه في الوقت ذاته يرى أن هذا النوع من الممارسات قد اختفى حديثا ولم يعد له وجود يمكن أن يُطلق عليه استعباد؛ “بل ما بقي منه مجرد مخلفات تجب معالجتها عبر مشاريع تنموية ودعم للفقراء وليس عبر التحريض وادعاءات المزاعم وتلفيق الوقائع كما تفعل حركة إيرا ومن معها” يردف مصطفى متسائلا: “حين نجد مثلا عاملا يمارس مهنة لدى مشغل بمبلغ زهيد هل من الحكمة أن ندعي أن هذا الأمر استعباد ونمنعه من ممارسته في حين أننا لن نعطيه بديلا عنه بل سنتركه للضياع، والواقع أنه علينا أن ندعمه ونحاول أن نجد له بدائل وليس مجرد تحريض لا ينفعه إلا بقدر ما يضره وأكثر”.

بتلك الجمل يحاول مصطفى أن يختصر كل ما لديه عن ظاهرة الاسترقاق في البلد متذكرا بعض الملامح الجميلة في التعايش بين مكونات الشعب الواحد التي لم تكن تخلو منها قريته الوادعة.

ولا ينسى صاحبنا أن يبث تطلعاته لغد أجمل ينعم به الوطن، متمنيا أن يبتعد عسكريوه عن مقاليد الحكم ويهتموا بأمن المواطن وحفظ حوزته الترابية كما حدد لهم الدستور، ولا يتأتى ذلك إلا بتركهم تسيير السلطة للساسة، وعلى الساسة الصدق ونبذ الخداع والعودة إلى القيم الإسلامية التي أصبحت غائبة منذ فترة.

ـ إحساس بشعور الجسد الواحد نحو الشعبين العربي والإسلامي:

حين يجلس مصطفى بجوار عربته لا يكاد بصره يتجاوز حاجز دوار مدريد، ولكن بصيرته تأبى إلا تجاوز الحواجز الطبيعية ومجاوزة مد بصره، فله في كل شاردة وواردة من الشأن الخارجي رأي؛ يبدأ حديثَه بالعتب على الحكومات العربية والإسلامية التي يراها حكومات متخاذلة أمام الأعداء ولا تمثل شعوبها بل مجرد حكومات مطبعة مع المحتل، وخير مثال على ذلك تركهم لفلسطين وحيدة دون مساندة، ويردف: أشك في أنه بعد صدام حسين يوجد في العرب قائد، ولا يخفي إعجابه بحركة حماس وجهادها ضد إسرائيل، كما لا يخفي تحمسه لعودة حركة طالبان للحكم بعد 20 عاما من الحرب عليها ويرى في ذلك مثالا يُحتذى به للتضحية من أجل تحقيق الغاية والصبر على المبدأ، دون أن يدافع عن توجهاتها ورؤاها التي ليس له الكثير من الاطلاع عليها.

ورغم عدم رضاه عن الحكومات القائمة إلا أنه يرى أن ثورات الربيع العربي أضرت بالشعوب العربية أكثر مما أفادتها.

نودع مصطفى وعينٌ له على كتاب على مقربة منه وأخرى على مصدر ثروته كل ثروته..