شهدت حقبة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز حراكا سياسيا وحضورا لافتا للصوت المعارض؛ فقد امتازت هذه الحقبة بكونها من أكثر الفترات التي شهدت سجالات سياسية بين الرئيس من جهة وبين الأحزاب المعارضة من جهة أخرى، فلم يكد يخلو شهر من السنوات العشر الماضية من مؤتمر صحفي أو بيان أو مسيرة من طرف الطيف المعارض في البلد، وأيا تكن أسباب هذه الحدة التي طبعت الصراع في فترة الرئيس السابق إلا أنها انعكست صمتا مريبا مع حكم خلفه الرئيس الجديد محمد ول الشيخ الغزواني والذي اعتبرته أحزاب معارضة عديدة ـ أعلنت ذلك صراحة منذ ترشيحه، وما تزال تذكِّر به الآن على استحياء ـ أنه مجرد امتداد للنظام العسكري وأن انتخابه لم يكن شفافا ولا توافقيا.

شد الحبل بين السلطة والمعارضة ظل قائما على أشده طيلة فترة الرئس السابق، وحتى بعد اتتخاب الرئيس الجديد بقي الموقف المعارض نفسه؛ فرفضت القوى المعارضة الانتخابات برمتها ودعت إلى مظاهرات حاشدة للوقوف في وجهها، وإن كان الوضع الأمني آنذاك لم يسمح بهذه المظاهرة إلا أن الصوت المعارض بقي قويا عبر البيانات والمؤتمرات الصحفية طيلة الفترة التي أعقبت الانتخابات بالحدة ذاتها التي كانت تطبع الحياة السياسية قبل الانتخابات.

ولكن لم يكد الرئيس الجديد يجلس على كرسي الرئاسة حتى بدأت الأصوات تخفت والحواجز تُزال والظنون تقل سوء، فتبادل الصف الأول من المعارضين الابتسامات مع الرئيس الجديد وكثرت الاجتماعات والثناء المتبادل بين الطرفين، وصار اسم زعيم المعارضة رديفا لاسم الرئيس في كل المحافل الرسمية في البلد؛ بدءا بمؤتمر المدن القديمة في مدينة شنقيط مرورا بتخليد الاستقلال الوطني في مدينة اگجوجت وليس انتهاء بمؤتمر السلم قبل أيام بالعاصمة انواكشوط.

وبين هذا وذاك غابت المسيرات الراجلة والبيانات الصحفية المنددة، التي دأبت المعارضة على أن تواجه بها “الأنظمة العسكرية المتعاقبة على حكم البلاد” حسب تعبير المعارضين دائما.

وفيما رحب البعض بهذا الصمت وهذا التقارب الجديد بين قطبي الصراع في الساحة السياسية معتبرا إياه دليلا على النضج السياسي المطلوب؛ اعتبر البعض الآخر أن الأمر ليس مجرد استكانة من المعارضة التي يبدو أنها سئمت مناكفة الأنظمة العسكرية المتعاقبة، وفضلت الصمت عن الأفعال والمسلكيات نفسها التي كانت تأخذها على النظام السابق.

أحد كوادر أحزاب المعارضة ـ في دردشة مع مراسل تقدمي فضَّل أن لا تكون للنشر ـ اعتبر أن هذا السؤال “سؤال وارد بعد قطعا” متسائلا: “ما نعرف المعارضة ذ الل مزالت تتحر شنه” معتبرا أن مهلة المائة يوم ـ التي تُمنح عادة للرؤساء الجدد ـ قد انتهت.

محمد ولد مولود رئيس حزب اتحاد قوى التقدم ـ عبر اتصال مع تقدمي ـ برر هذا الصمت بأن مرحلة الأشهر الماضية كانت مرحلة نظر وانتظار وأن أحزاب المعارضة الآن عاكفة على مرحلة التقييم والتشاور وتحديد الخيارات لإبراز موقف موحد من النظام الجديد، معتبرا أن هذه الفترة ضرورية في ظل حكومة ورئيس جديدين، بالإضافة إلى كون الكثير من الأحزاب المعارضة ـ كحزب اتحاد قوى التقدم وتكتل القوى الديموقراطية وغيرهما من الأحزاب المعارضة ـ منشغلة بأمور داخلية؛ إذ يعكف حزبه ـ مثلا ـ هذه الأيام على حملة الانتساب والتحضير للمؤتمر العامّ.

أما عبد السلام ولد حرمة رئيس حزب الصواب فلا يرى أن ثمة صمتا كالذي يبالغ البعض في التحدث عنه؛ إذا لا يمكن في نظره الحديث عن صمت مطبق من المعارضة وهي التي ما فتئ نوابها يتحدثون عن الوضع الحالي داخل قبة البرلمان، كما قامو بمساءلة وزراء عدة عن تسيير هذه المرحلة، بالإضافة إلى دفع النواب المعارضين وإلحاحهم من أجل نشكيل لجنة التدقيق البرلمانية التي وإن كانت تجمع مختلف المشارب في البرلمان إلا أن الفضل في تأسيسها يعود بالأساس إلى النواب المعارضين الذين دفعوا بها إلى الأمام وتبنوها ورعوها.

الرئيس عبد السلام إلى جانب ذلك أيضا لم ينفِ أن تكون المعارضة الآن تعيش فترة انتقالية لسببين رئيسين، يتمثل الأول منهما في أن هذه المعارضة قد خرجت من مرحلة كانت فيها مفككة وأنها الآن عاكفة على استعادة عافيتها وتشكيل إطار يجمعها، فيما يمثل صراع أجنحة النظام السبب الآخر، ذلك أن المعارضة كانت في مواجهة مع نظام قبل أن يصبح هذا النظام نفسه في معركة بين أجنحته المتصارعة، فصارت تريد في المقام الأول تأكيد زوال النظام الأول وهي التي ظل يؤرقها شبح عودته باستمرار، ووجدت بذلك نفسها مضطرة ـ ولو بالصمت والمراقبة ـ إلى مؤازرة النظام الجديد في حربه على النظام القديم الأكثر منه سوء بالتأكيد.
الرئيس ول حرمة ـ في حديثه لتقدمي ـ اعترف بأن مواقف المعارضة الآن ليست بمستوى أفق انتظار وتطلعات الشعب الموريتاني في ممارسة الدور المنوط بها في نقد وإظهار الواقع المأساوي السيئ الذي ما يزال يعيشه الوطن واقعيا وعمليا في حقبة الرئيس الجديد كما كان يعيشه في مأموريتي الرئيس عزيز.

كما لفت ول حرمة إلى أن “نظام الأمر الواقع” ـ كما يفضل تسميته ـ قدم إشارات إيجابية كالانفتاح النفسي والمعنوي على أمل أن يحدث تغييرا، وأن ذلك بالأساس هو ما يزال يمنع المعارضة من إطلاق مشروعها وتحديد مواقفها، مبرزا أن المعلومات المتوفرة لديه تؤكد أن المعارضة الآن عاكفة على إنشاء إطار سياسي يجمعها وإطلاق برنامج سياسي وطني لمواجهة النظام والوقوف في وجه تلكؤه فيما أعطى من التعهدات واستمرار الدوائر الطبيعية التي كان فيها النظام السابق.

أما مسؤول الإعلام في حزب تكتل القوى الديموقراطية سليمان ولد محمد فال فقد رأى أنهم في ائتلاف قوى التغيير رغم عدم اعترافهم بالنظام الجديد الذي أفرزته صناديق اقتراع لا يعتفون بنتائجها؛ إلا أنهم ظلوا مستعدين لمد اليد لأي محاولة لتطبيع الحياة السياسية كما أنهم أعطوا فرصة للنظام الجديد، وأن هذه الفرصة وإن كانوا لم يحددوها بأجل معين إلا إنها في العرف السياسي تمتد من ستة أشهر إلى سنة، مبررا في الوقت ذاته حضور قادة المضارضة للتظاهرات الرسمية للحكومة الجديدة بأن ذلك كله يأتي في إطار التعاطي السياسي السليم من أجل سعيهم لتطبيع الحياة السياسية، ومذكرا في الوقت ذاته بما ذكره رئيس الحزب في مقابلات عديدة من أن الانفتاح
واللقاءات مع المعارضة لا تكفي وحدها لحل مشاكل موريتانيا المزمنة ولابد لها من حوار وطني شامل وتجاوز مجرد الإشارات الإيجابية المتبادلة إلى خطوات فعلية تترجمه على أرض الواقع.

واعتبر سليمان أنه بالرغم من أن المهلة التي حددوها للنظام لم تنته بعدُ إلا أن لديهم مآخذ عديدة عليه حتى الآن من أبرزها تدوير رموز العشرية وكذلك قوله بأن الحوار ليس ضروريا.

أما الناشط والمحلل السياسي محمد الامين الفاظل فقد أرجع أسباب صمت المعارضة إلى إنهاكها بعد عقد من الصدام مع الرئيس السابق، بالإضافة إلى التهدئة من طرف الرئيس الحالي.

وقد صار هذا الصمت مادة للتنكيت من طرف رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فاعتبر بعضهم أن صمت المعارضة عائد إلى تزعم عزيز لمعارضة الرئيس الحالي وأن “الل اجبر شواي ما تنحرگ أيدو”، فيما اعتبر البعض الآخر أن الأمر عائد إلى “صلاح” الرئيس الحالي، في إشارة إلى انحداره من بيئة صوفية.

كما اعتبر البعض أن الأمر مجرد “عدوى” أصابتهم من صمت الغزواني نفسه.

محمدي ولد دحان