استيقظ سكان العاصمة الغينية كوناكري على قصف المدفعية الثقيلة ولعلعة الرصاص فجر الأحد الخامس من سبتمبر والذي استمر لثلاث ساعات، ولكن غالبية السكان لم يكونوا يتوقعون أن هذا اليوم سيحمل حدثا سياسيا مهما في تاريخ الدولة الغينية الحديثة.

لقد قرر قائد “تجمع القوات الخاصة” التي تمثل أهم وحدة من قوات النخبة العسكرية المقدم مامادو دومبويا أن يطيح بالرئيس ألفا كوندي، المنتخب لمأمورية ثالثة منذ أقل من سنة.

جاءت التعزيزات العسكرية المؤيدة للضابط دومبويا من منطقة دوبريكا شرق البلاد على مسافة حوالي أربعين دقيقة بالسيارة من العاصمة كوناكري، حيث اقتحم المقدم حراسة القصر الرئاسي، والذي كانت وحدته “تجمع القوات الخاصة” من أهم الوحدات المسؤولة عن تأمينه، قبل إبعادها قليلا بعد شكوك حامت حوله في الأشهر الأخيرة، بشأن طمعه في زيادة نفوذه، لا سيما بعد أن اتجاهه لاستقلالية أكبر لوحدته عن وزارة الدفاع.

بعد مقاومة خفيفة ما فتئت أن تم إخمادها، تم القبض على الرئيس، واستسلم قائد الأركان عند بوابة القصر للسادة الجدد، متذرعا بأنه لا يمكنه القتال في ملابسه المدنية.

بعض المراقبين وسط سرعة الأحداث وسرعة سقوط القصر في أيدي الانقلابين، تساءل ما إذا كان الأمر لعبة جديدة، أو مجرد سيناريو لتكرار ما حدث عام 2015، عندما أُعلن عن انقلاب في البلد، قيل فيما بعد إنه كان من تدبير الرئيس نفسه، في حيلة تبناها كوندي لمعرفة الموالين الحقيقيين له، ولتصفية بعض الجنرالات أو تحييدهم على الأقل، وقد تم الزج بالعديد منهم في السجن آنذاك، وعضد أصحاب هذه الفرضية موقفهم بأن الرئيس كان يقضي إجازته في تركيا التي عاد منها قبل ثلاثة أيام فقط، مضيفين أن المنطق يقول إنه لو كانت هناك نية جدية في القيام بانقلاب لحدث في فترة إجازة الرئيس، وليس بعد رجوعه إلى كوناكري.

غير أن إعلان الانقلابيين عن حل المؤسسات الدستورية، وحل الحكومة والسلطات الإدارية والإقليمية التي تولاها قادة المناطق العسكرية، لم يكن يدع مجالا للشك أن غينيا تدخل مرحلة جديدة من تاريخها السياسي.

وربما ساهم كون يوم الأحد وهو عطلة الأسبوع حيث يكون معظم القادة العسكريين في منتجعاتهم خارج العاصمة في تسهيل مهمة الانقلابيين، كما أن إعلان إحدى أهم الوحدات العسكرية في غينيا في ولاية كايين دعمهم المبكر لدومبويا شكل دفعا مهما ورسالة أخرى تؤكد انسجام المؤسسة العسكرية مع التوجهات الجديدة لقائد الانقلاب. ورغم أن الرئيس المطاح به، رقى خلال السنوات العشر الأخيرة ما يناهز عشر جنرالات من خلصائه، فلم يدافع عنه هؤلاء الضباط، بل تخلى الضباط العسكريون الموالون للرئيس عنه، بعد أن تبين لهم أنه أصبح عبئا في ظل الاحتجاجات الشعبية والتذمرات السياسية، وكذلك في ظل ما يروج من معلومات تؤكد أن زبدة الحراس الشخصيين للرئيس، الذي صنف الثالث أفريقيا الأشد حراسة، من جنسيات أجنبية وغير غينيين. هذا إضافة إلى بعض التأييد الشعبي الذي حظي به الانقلابيون، وعدم تسجيل أي موقف شعبي أو حزبي يدين الانقلاب أو يندد بالإطاحة بالرئيس، حتى في منطقته “كانكان” شرق البلاد في إقليم غينيا العليا، والتي ينحدر منها أيضا قائد الانقلاب مامادو دومبويا.

 بل حتى إن الحزب السياسي الذي وصل كوندي إلى السلطة تحت يافطته، والذي يترأسه،هو نفسه، لم يعلق على ما حدث خلال الساعات الأربع والعشرين من الأحداث حتى الآن.

ما مصير الرئيس المخلوع؟

في هذه الدوامة من الأحداث المتسارعة، يطرح سؤال مهم حول مصير الرئيس المخلوع ألفا كوندي.

هذا السؤال عندما طرح على السياسي المعارض الحاج سلو دالين جالو، الذي واجهه خلال الانتخابات الرئاسية قبل أقل من سنة، عندما قام كوندي بتغيير دستوري يسمح له بمأمورية ثالثة، أجاب المعارض الذي لم يعترف بنتائج الانتخابات المزورة- حسب رأيه- وما زال يعتبر نفسه الفائز، بأنه يعتبر ترشح كوندي أصلا غير دستوري، قبل أن يضيف أنه سمع بالانقلاب من وسائل الإعلام، معبرا عن أمله في أن تتحقق العدالة، وهي ربما إشارة إلى ضرورة محاكمة ألفا كوندي، سواء كان ذلك على خرق الدستورأو كان حول ما راج من تورطه في أحداث ملعب 28 سبتمبر، التي أطلق فيها الجيش الغيني الرصاص الحي على المتظاهرين وأدى إلى ما قيل إنه أكبر مجزرة في تاريخ البلد عام 2009 منذ الاسقلال، وإن لم يكن ألفا كوندي يومها في سدة الحكم، ولكن الضابط الذي استولى على السلطة موسى داديس كامارا، إثر وفاة الرئيس لانسنا كونتي عام 2008، قد اعترف في وقت لاحق، بعد نجاته من محاولة اغتيال، أن ألفا كوندي اتصل به من فرنسا، وحثه على إطلاق النار على المتظاهرين حينها. 

ويرى مراقبون أن الحالة الصحية الهشة للرئيس الثمانيني (83 عاما) قد لا تسعفه كثيرا في الصمود أمام هذه الهزات العنيفة، بينما رجح صحفيون غينيون أن يسمح له باللجوء خارج البلد، مستبعدين أن يتوجه إلى فرنسا التي عرفت علاقته بها توترا بعد قراره الترشح لمأمورية ثالثة، كما استبعدوا لجوءه إلى السينغال في ظل سوء التفاهم الذي كان قائما بينه وبين الرئيس ماكي صال، الذي سبق وأن اتهمه كوندي بدعم المعارضة في غينيا، في حين أكدوا أن المغرب، حيث يملك كوندي قصرا كبيرا، يمكن أن يكون الوجهة المنطقية في حال مغاردته البلاد.

ماذا ينتظر غينيا، وما التأثير الاستراتيجي في المنطقة لما حدث؟

لا شك أن الانقلاب سيمثل هزة في المنطقة، وقد يعيد ترتيب الأوراق الجيوستراتيجية فيها، ففي السينغال حيث كانت الأحلام تدغدغ الرئيس صال بمأمورية ثالثة ستتضرر هذه الأحلام كثيرا، وذلك بعد أن فشل داعمو ولد عبد العزيز في ذلك وتم إيداعه السجن، وكذلك إثر الإطاحة بكوندي بعد أقل من سنة من مأموريته الثالثة.

ومن هنا سيصبح الدرس الغيني، ربما القطرة التي تفيض الكأس، أو الفيصل في شأن تبني المنطقة للخيار الديموقراطي، أو توجهها إلى حقبة جديدة من عدم الاستقرار.

وبالنظر إلى الظرف الحساس والمتوتر الذي حدث فيه الانقلاب في غينيا، والذي كاد فيه الانقلاب أن يكون مطلبا شعبيا، وكذلك بالنظر إلى قائد الانقلاب الذي يقال إنه من أفضل العسكريين تعليما ودراية بالرهانات السياسية، بالإضافة إلى قيادته القصيرة لوحدته (منذ 2018) والتي بموجبها قد لا تكون يداه ملطخة بدماء الغينيين عكس الضباط القدماء، فإن كل هذه التفاصيل قد تجعله لا يخشى الخروج من الحكم خشية مساءلات قانونية حول جرائم معينة بعد المرحلة الانتقالية، مما يمكن أن يشكل فرصة لغينيا كي تفتح صفحة جديدة من تاريخها السياسي تنهي عصر الانقلابات، وترسي ركائز حكم مدني، لا سيما أن قائد الانقلاب مامادو دومبويا أعلن في أول ظهور له أن “عهد موت الغينيين لأهداف سياسية قد انتهى”، وطالب الجميع، سواء كانوا قوى سياسية مدنية أو عسكرية أو شركاء خارجيين، بمساعدة غينيا على كتابة دستور جديد وإحداث تغيير سياسي ديموقراطي وهادئ، عبر انتخابات نزيهة تنظم بعد مرحلة انتقالية، وتأتي هذه التصريحات في ظل تهديدات وتحديات أمنية تعرفها المنطقة؛ خاصة تداعيات انهيار المؤسسات في مالي، وما حدث في تشاد، بالإضافة إلى الدرس الموريتاني، بينما تظل كل العيون مصوبة إلى دكار في ترقب حذر.