يعمل حوالي 2000 شخص -كأقل تقدير- في عملية توزيع وبيع البنزين بشكل غير مرخص، على مستوى مدينة نواكشوط وحدها، ويعرفون ب”الحلابة”.

يأتي البنزين من الميناء، دون أن يخضع للجمركة، ويتم بيعه في شوارع العاصمة نواكشوط بشكل علني وبأسعار رخيصة إلى حد ما، ويقبل على شرائه معظم مستخدمي السيارات التي تعمل به، ومع ذلك تستمر الجمارك الموريتانية في محاربة ممارسة هذا النشاط الغير مرخص والذي يعرض حياة المواطن للخطر، عن طريق المصادرة، وفرض غرامات مالية أحيانا.

نقطة البداية

يعمل (ا خ) في مهنة بيع البنزين منذ أزيد من أربع سنين، يستقل سيارته يوميا، ويتجه نحو ميناء نواكشوط، لشراء البنزين بأسعار رخيصة من المحطات الواقعة داخل حدود الميناء، لأن تلك المحطات تحتوي على البنزين الغير مجمرك، والذي لم يخضع بعد لنظام الضرائب، وبالتالي يكون رخيص الثمن.

تعمل تلك المحطات عادة، على تزويد السفن والباخرات بالبنزين، وتلك هي أولويتها، إلا أن القائمين عليها، يتلقون رشاوي من “الحلابة” ليبيعوا لهم بنفس التسعرة.

ينتظر (ا خ) دوره حتى يحين، ثم يقدم الرشوة ل”بومبيس”، ويبتاع منه قدر استطاعته من البنزين، ثم ينطلق خارجا، لكن قبل ذلك، عليه أن يدفع أيضا، فحتى الخروج من هناك له ثمنه، وعناصر الجمارك المنتشرة في كل مكان، ليست غافلة عما يحدث، هي فقط تريد نصيبها.

على (ا خ) أن يدفع 100 أوقية قديمة عن كل 20 لتر لصالح “بومبيس”، و200 أوقية قديمة عن كل 20 لتر أيضا لصالح مسؤولي الجمارك، وبمعنى آخر إذا كان يريد 1000 لتر (50 بيدون)، عليه أن يدفع 5000 أوقية قديمة ل”بومبيس”، و 10000 أوقية قديمة لعناصر الجمارك، وهكذا.

وحين يعود للمدينة، يوزع (ا خ) ما اشترى على بعض الشباب الذين يعملون عنده، في مناطق مختلفة من العاصمة، وبدورهم يبيعونه لزبائنهم بالسعر المعروف.

وفي رده على سؤالنا عن كيفية تهربه من الجمارك داخل العاصمة، وهو يبيع سلعة غير قانونية، وفي مكان معلن، يقول (ا خ)، بأن لديه معارف من داخل الجمارك، يدفع لها أحيانا من أجل أن لا تتعرض بضاعته للمصادرة، وفي مناطق أخرى من العاصمة، حيث لا يحصل على التغطية، يجب عليه أن يخفي أعماله عن أنظار الناس، وبالتالي يتفق مع زبائنه على مكان محدد للتسليم والدفع، وهكذا.

يحقق (ا خ) أرباحا جيدة من تجارته هذه، حيث يسجل دخلا شهريا يقدره بأكثر من نصف مليون أوقية قديمة، كما أنه يوفر فرص عمل لحوالي 8 شبان موريتانيين عاطلين، وبدخل مقبول، هكذا يبرر (ا خ) لجوءه إلى ممارسة هذا العمل، رغم ما يتضمن من خطورة بالغة، ويضيف: “أنا وفريقي نحاول كل جهدنا تفادي تلك الخطورة، حيث نضع البنزين في أماكن مناسبة، بحيث لا يتعرض لأشعة الشمس، أو الرطوبة العالية”.

ضلوع رسمي

دائما مايتسائل الجميع، حول الطريقة التي يبقي بها باعة البنزين أنشطتهم بعيدا عن أنظار الجمارك، وما دام معظم هؤلاء، يضعون علامة على مكانهم تحمل أرقام هواتفهم، فكيف لا تتمكن أجهزة الجمارك من استدراجهم، والقبض عليهم ومصادرة ما بحوزتهم من بنزين؟

لكن قبل ذلك، كيف يتمكن هؤلاء أصلا من دخول الميناء وشراء بضاعة بطريقة غير قانونية، وإخراجها من هناك، دون ملاحظة الجمارك لذلك؟

التقينا بأحد أفراد الشرطة، كان يعمل في ميناء نواكشوط منذ فترة قصيرة، ولا يريد الإفصاح عن هويته، أكد لنا أنه أحيانا يحصل على مبلغ أكثر من 20 ألف أوقية في يوم واحد، فقط من خلال التعامل مع باعة البنزين، حيث يستخدم سلطته وعلاقاته في المكان، ليضمن لهم الخروج من هناك بسلاسة، ودون أي مشاكل.

لا يعتبر (ح م) أن في الأمر عار بالنسبة له، بل العكس، فهو كغيره من الموظفين، يجب أن يكون “شجاعا” ويحصل على أكبر مبلغ مالي ممكن، وما دامت الدولة لا تعطيه راتبا كافيا، فهو بالتأكيد سيمارس أعمالا خاصة به، تدر عليه مالا كثيرا، لمجرد استخدام صلاحياته.

أكد لنا أيضا، أن معظم العاملين في الميناء، سواء من الجمارك أو الشرطة، أو حتى الموظفين المدنيين، يفضلون العمل في هذا المكان، أي الميناء، ليس حبا فيه، وإنما لما فيه من فوائد مالية، لا يمكن العثور عليها في مكان غيره.

أكد لنا أحد الزبائن أيضا، أنه ذات مرة، استفسر من بائع البنزين؛ كيف تبيع البنزين بشكل غير قانوني في قلب الشارع، ووضح النهار؟! فرد عليه، أنا مجرد عامل، ورب العمل ضابط في الجمارك، فكيف أخاف من الجمارك وأنا أعمل عندهم؟!

سؤال في محله بكل تأكيد، فما دام قطاع الجمارك هو المسؤول عن الرقابة على الأعمال والنشاطات الغير قانونية، وفي نفس الوقت هو الراعي الرسمي لها، فكيف ستحارب الدولة إذا هذه النشاطات التي تشكل خطورة بالغة على حياة المواطن؟!

قنبلة موقوتة

في 30 من ابريل الماضي، اشتعلت سيارتان من نوع “توك توك” في حي “سيتي بلاج” بالعاصمة نواكشوط، مما أسفر عن موت شخصين كانا على متنهما، وتفحمت أجسامهم، في مشهد مرعب، تداوله ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي.

وبحسب ما نقله شهود عيان آنذاك؛ كانت السيارات تحمل البنزين، وبعد اصطدام بسيط بينها، وقع انفجار، أدى إلى اشتعال السيارتين، وأسفر عن مقتل السائقين كذلك، مع تأخر فرق الحماية المدنية عن التدخل.

قبل هذه الحادثة سجلت حوادث أخرى في العاصمة، من بينها حالة اشتعال منزل بمقاطعة عرفات، احترق بالكامل، إضافة إلى منزل آخر بمقاطعة تفرغ زينه، احترق جزء منه، وهذا الأمر متوقع دائما، حين يتعلق الأمر بالبنزين، تلك المادة الخطيرة، سريعة الاشتعال.

الحالة الأخيرة التي ذكرنا في تفرغ زينه، كان صاحبها يخزن البنزين داخل “بنطره من السنگ”، وفي ظل درجات الحرارة المرتفعة، والرطوبة العالية، لم يكن أمام البنزين سوى أن ينفجر، ولحسن الحظ لم يكن المنزل المجاور مأهولا حينها، حيث وقعت الحادثة في زمن العطلة الصيفية وأهل المنزل خارج نواكشوط، ليشتعل جزء منه ويخلف خسائر مادية بسيطة.

وأسوأ ما في الأمر أن معظم “الحلابة” اليوم، يستأجرون محلات داخل منازل السكان، ليستودعوها بضاعتهم، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا على سكان المنزل، بل وسكان الحي بشكل عام، وفي الآونة الأخيرة أصبح “الحلابة” يتجهون أكثر إلى الأحياء الشعبية، بعيدا عن أنظار السلطات، ويتخذون منها موطنا لأنشطة التخزين، في تجاهل تام لما يكتنفه ذلك من مخاطر، تهدد حياتهم، وحياة غيرهم.