اجرى الحوار: الشيخ نوح

في إطار اشتباك صحيفة تقدمي بالواقع الثقافي وتحريك مياهه، نقوم بسلسلة لقاءات وحوارات مع نخب ثقافية وطنية وعربية ودولية.

في هذا اللقاء نسبر أهم اهتمامات الشاعر والصحفي مولاي علي ولد الحسن الإبداعية، كما نعرج على أسئلة ذات صلة بتجربته الكتابية بالإضافة إلى مشاريعه المستقبلية. متابعة ممتعة.

ـ إذا بدأنا من آخر الأخبار، وأنت تحضر كما يشاع لعملك الشعري الأول، ما سر تأخر الشعراء والكتاب الموريتانيين في نشر أعمالهم غالبا، أهو قلق الابتداع أم إكراهات الواقع؟

بالنسبة إلي، تأخرت مجموعتي الشعرية الأولى عن توقيتها المفترض؛ بسبب تردّد البدايات، وقلق النزوع المستبد إلى التعديل والحذف وإعادة الكتابة، رغم يقيني أن المجموعة ـ التي أخطط لإصدارها في أقرب وقت ـ لن تخلو كأي مجموعة أولى من “عثرات” المحاولات المبكّرة لاستدراج القصيدة، والسبب الثاني يرجع إلى صعوبات النشر “غير المشروط”، محليا وبدرجة أقل عربيا؛ فلسوق النشر قوانينها الخاصة، والناس في العالم العربي ما زالوا يؤثرون، في ما يبدو، الاستماع إلى القصائد وقراءة الروايات!
في ما يخص الحالة العامة، في تقديري أن رهان المشروع الإبداعي والمشروع الثقافي عموما في البيئة الاجتماعية الموريتانية هو رهان قاسٍ وصعب؛ لاسيما عند الانتباه إلى الفاقة الثقافية التي نحياها؛ حيث لا تتوفر دور سينما ولا مسارح ولا تقام معارض فنية أو مهرجانات موسيقية إلا نادرا، إلى جانب هيمنة الابتذال والتمييع، وعند الانتباه كذلك إلى سطوة البداوة الاجتماعية السائدة التي لا تعترف بجدوى وضرورة الإبداع المكتوب والعالِم، قدر انصرافها إلى التقاليد الأدبية الشفاهية. لكنني أفترض أن الجيل الأصغر، بمبدعيه وجمهوره، ونتيجة انفتاح وعيه أكثر على العوالم الخارجية ومثاقفته عن بعد لتجارب ثرية ومتضاربة، من مجتمعات وخلفيات ثقافية مختلفة، قد يسهم في خلق حالة موريتانية مغايرة.

هناك من يرى أن المشهد الثقافي الموريتاني لم يستطع أن يفرز نساء مبدعات، هل أنت مع هذا الرأي، وما موقع الأقلام النسائية في المدونة الشعرية الموريتانية؟
سؤال الإعراض النسائي عن الكتابة وبالأخص الكتابة الشعرية، هو، في تقديري، سؤال شاغل وراهن، ومطروح للمعالجة البحثية والأكاديمية، خاصة أنه يبدو عابرا للحالة الثقافية الموريتانية ببعديها العربي والفرنكفوني.
مع ذلك من الواضح أن هناك استثناءات تسترعي الانتباه والاحتفاء أيضا، تتصدرها الشاعرة الراحلة خديجة بنت عبد الحي، والشاعرة مباركة بنت البراء، وعلى صعيد الكتابة السردية،الروائية سميرة حمادي فاضل، والشاعرة والروائية عيشة أحمدو، وثمة بالتأكيد أسماء أخرى، ولكن من جانب آخر أعرف صديقات ذوات موهبة واضحة في الشعر والكتابة، رفضن النشر، وآثرن الصمت، وانقطع بعضهن عن الكتابة، بدافع من إكراهات الحياة الاجتماعية.
وعند استدعاء” التبراع”، بوصفه نمطا شعريا خاصا بالمرأة، يسترعي الملاحظة “نكران الذات الإبداعية” لدى النساء الموريتانيات؛ حيث تتفشى وتشتهر مقاطع التبراع، فيما تتوارى مبدعاته وراء ملاحفهنّ، وتذوب أسماؤهن في ظلمة غامضة؛ وهو ما يعزّز الفرضية التي تقترح أن الأنساق الثقافية والاجتماعية المهيمنة لا تشجع الحضور الإبداعي للنساء، مع أن “التبراع” ذاته مثال متفوق للموهبة الاستثنائية للنساء الموريتانيات، اللائي يقطّرن خلاصات العمر والتجربة، والتباسات الذات والعاطفة، في كبسولات لغوية مضغوطة ومُوحِيَة، ومُمَوْسَقَة بأناقة.

تنحاز في خياراتك الأسلوبية والفنية والشكلية إلى قصيدة التفعيلة، وتقف موقفا “كلاسيكيا” حسب البعض من النص التناظري حين تعتبره كلاسيكيا، ألا تعتقد أن هذا الجدل أصبح متجاوزا، ولم يعد هناك شكل ولا مضمون منفصلين؟

أولا، أؤثر استخدام مصطلح “الشعر الحر”؛ فتسمية “شعر التفعيلة” تستبطن اختزالا مزدوجا للتغيير الحداثي الذي طرأ على الصيغة المعهودة تراثيا للقصيدة العربية، فهي من جهة تُوحي بأن القصيدة الجديدة، التي تقترح التحرر من وحدة البيت ووحدة الشطر، تقع أسيرة وحدة أصغر هي”التفعيلة”، وهو تفسير مُغالِط؛ لأن حرية التصرف الإيقاعي في هذا النمط ليست مسقوفة ببنى التفعيلات المستخدمة، ومن جهة ثانية تختزل تسمية “شعر التفعيلة” التغيير الطارئ على النص في البعد الإيقاعي.
وخلافَ ذلك فإن الشعر الحر اصطلاح أكثر وفاء، في حمولته الدلالية، لمشروع التحديث الإبداعي الذي دعا إليه رواد هذا النمط الشعري في إبداعاتهم وتنظيراتهم النقدية؛ فالقصيدة الحرة تصبو، عبر التمرد على بنية البيت وتناظرية الشطرين، إلى تحقيق الوحدة العضوية الكاملة للنص، وأحيانا للمجموعة الشعرية الواحدة حتى، كما يظهر في نماذج معينة (مدينة بلا قلب لأحمد عبد المعطي حجازي؛ أحد عشر كوكبا لمحمود درويش؛ والشيوعي الأخير يدخل الجنة لسعدي يوسف…).
في نظري من أبرز خواص النص الحر أنه غير مشروط ببنية تكرارية ثابتة؛ وهو ما يتيح له استيعاب التدفق التعبيري الواسع والمشحون بمضامين وانشغالات متعددة دون أن يكبحه الشطر أو البيت كجملة إيقاعية، كما يتيح له توظيف تقنيات سردية وحوارية تضيق عن استيعابها الصيغة التقليدية للقصيدة، وهو مسعى تعزّز مع قصيدة النثر، التي تبتعد أكثر في محاولات التحرر من أي صيغ أو شروط لغوية مسبقة، وتجازف باختلاق كل نص على حدة لشكله المنفرد، وهي مجازفة لا تخلو، في تقديري، من فخاخ خطرة.
بالنسبة إلي، تأثرتُ في توقيت مفصلي من محاولاتي الشعرية، بالرواد الكبار لقصيدة الشعر الحر العربية؛ وشدّتني الصيغة المفتوحة للنص التي تسمح بتداعي الإيقاع والصور التعبيرية دون ترتيب تناظري؛ أعتبر أن مشروعي الشعري ينتمي بالأساس إلى قصيدة الشعر الحر، وإن كانت غواية التجريب تدفعني إلى محاولات مستمرة في “النص التناظري”.
في رأيي، لا يمكن تجاوز انفصال “الشكل” و”المضمون” كمفهومين إجرائيين، عند تفحص المستويات التركيبية لأي نص، وبالأخص عند استحضار سطوة “القوالب” الإبداعية وتأثيرها كخيارات مسبقة، وبنى قائمة ومتفاوتة المرونة.

الشاعر في موريتانيا بهلوان، قد يجيل الرقص والتوقيع على الدف، ولكنه لم يستطع أن يتجاوز كونه “شاعرا” بالمعنى العامي؛ يمتدح ويهجو بحسب الدفع أو المنع؟

الشاعر مختزل في أذهان الكثيرين في صورة نمطية، ترسخها حالة التمييع التي تطال مساحة المجال العمومي في موريتانيا، بما فيها الحيز الثقافي؛ وهي صورة ترى فيه انتهازيا يضارب بالكلمات في بورصة السلطة والمجتمع.
حالة التمييع هذه يتورط فيها محسوبون على الشعر والثقافة يتسلقون الواجهة سعيا وراء مكاسب مادية، دون أن يحملوا أي مشروع ثقافي جاد، أو يعبأوا بالقيم الثقافية، كما تتورط فيها مؤسسات رسمية مثل (اتحاد الأدباء والكتّاب الموريتانيين) الذي يتلقى سنويا عشرات الملايين من خزينة الدولة دون مقابل ثقافي، في بلد يفتقر للإصدارات والجوائز الأدبية والمهرجانات الجادة!
لكن الأكيد أن ثمة شعراء ومبدعين موريتانيين جادين وعلى قدر المسؤولية الثقافية، ومهمومين بشواغل مشاريعهم الإبداعية بإخلاص فنّي وأخلاقي؛ وأولئك هم الرهان.

في مقولة مشهورة يقولون (إن الشاعر جاسوس على الغيب). وقد لقيت قصيدتك “نواكشوط، شارع جون كندي ليلا” قبولا واسعا، هل كنت تتنبأ بما سيحدث من تغيير لاسمه، أم أنك كتبت النص وفاء لنوستالجيا أثارها تغيير الاسم. ولماذا هذا الشارع بالذات؟

كتبت نص “نواكشوط، شارع جون كينيدي ليلا” قبل قرار تغيير اسم الشارع؛ كانت تدفعني رغبة إبداعية في كتابة شعر يترجم المكان ويهجس بما يعتمل فيه من بشر ومصائر، وكنت أتعمد كذلك إدخال مفردات محلّية حيّةإلى القاموس الشعري الموريتاني؛ ولعل ذلك هو ما فرض صيغة العنونة.
يمثل الشارع في تجربتي الشخصية نموذجا مصغرا لنواكشوط “الوسطى” إن أسعف المعنى، أو نواكشوط “الانتقالية” بالدلالتين المكانية والزمنية؛ هو من جهة شارع يربط يوميات الباعة الصغار والعمال اليدويين وأطفال “الطاليبي”، بدرب مرتادي المقاهي والمكتبات من طلبة وشباب منخرطين في الهم النضالي، وموظفي طبقة وسطى، ومن جهة ثانية هو يؤرخ لتحولات صامتة أو خفية وأخرى جليّة في نواكشوط… المحلاّت وماركات السيارات الجديدة والعمارات التي تتسلق الأفق إلى جنب دور نواكشوط العتيقة، وجدل المقاهي الليلي وما أفرزه من طيف بشري يتراوح بين كتّاب طلائعيين، وتكفيريين مشاريع قنابل بشرية مع وقف التنفيذ!

تجربة نادي “دهشة” الشعري، والتي جمعتك مع شعراء شباب آخرين، ما تأثيرها فيك إن كانت أثرت، وهل تعتقد أنها ساهمت بإضافة ما في المشهد الشعري الموريتاني؟

“دهشة” فتحت حواسي الشعرية ووعي الفكري على مغامرة مشتركة لتحرير القصيدة العربية الموريتانية من زمن ثقافي متأخر ومتخاذل، ومصالحتها مع واقعها؛ لإفراز تجربة حداثية محلّية، ورأيي أن هذا المسعى انعكس في نصوص شعراء دهشة، وأنا من بينهم، كما أن انضواءنا في نادٍ شعري يحمل مشروعا ثقافيا مشتركا، أسهم في خلق حوار داخلي حول مختلف الحساسيات والخلفيات الشعرية المتباينة التي تؤثر في كل منا؛ وبالتالي أسهم في شحذ تطلعاتنا الإبداعية بوقود ثقافي متجدد.
إلى جانب ذلك أعتبر أن “دهشة” أسهمت في خلق ذائقة شعرية جديدة لدى الجمهور الموريتاني، يتمثلها أساسا جمهور مثقف وشاب ذو تطلعات حداثية؛ لا يرضى بالنماذج الجاهزة والمكرورة للشعر الموريتاني، ويبحث عن مايروي عطشه الثقافي والجمالي.

يتجاذبك الهم الشعري والصحفي، فهل أنت صحفي يهوى الشعر، أم شاعر يأكل الكافيار من مهنة الصحافة؟

الشعر شغفي الوجودي، والصحافة مهنة تفرضها ضرورات اليومي!
أما الكافيار فلم ألمحه يوما إلا في الوثائقيات!

لو أن أحد الأصدقاء دعاك على حسابه في مطعم، وترك لك الخيار لاختيار وجبتك الليلية المفضلة، ماذا ستكون يا ترى؟

سأختار غالبا طبق شرائح سمك الكابيتين المشوية أو المقلية..حسب الطقس والمزاج!

هل يمكنك أن تهدينا نصا في نهاية هذه المقابلة، وبالتحديد “نواكشوط، شارع جون كندي ليلا”؟

سأشارككم إذن مقطعا من النص المعني، الذي أسعى أن تضمه كاملا مجموعة شعرية قادمة..
“………………..
وينعَسُ فِي شَجَرِ النِّيمِ وَجْهُ الطبيعة….
سيّارةٌ تِلْوَ أُخرى تلطّخُ روحَ المكانْ
سجائرُ تعتنِقُ النَّارَ مَعنَى
فيعرُجُ فوْقَ الجميع…الدُّخانْ
———
ولا يبْرَأُ الشّارِعُ الكهْلُ من وَجَعِ النَّاس…
دُورٌ تُغَلِّفُ أسرارَهَ
والعمارات ـ أعني قليل العمارات ـ تقضِمُ حصَّتَه
من ترامِي السماء على الأرْض…”

سيرة ذاتية مختصرة

مولاي علي ولد الحسن ـ شاعر
من مواليد 1990 ـ نواكشوط
خريج قسم علم الاجتماع بجامعة نواكشوط ـ ليسانس 2011.
يعمل في مجال الإعلام منذ عام 2012.
صحفي وصانع محتوى في شبكة الرؤية.

له نصوص شعرية منشورة في موقع (القصيدة.كوم).
شارك في عدة فعاليات ثقافية محلية وعربية.
عضو مؤسس في نادي “دهشة” الأدبي بموريتانيا.
عضو مؤسس في المكتب الموريتاني لرابطة القلم الدولية PEN International.